لم يشأ وزير الخارجية اللبناني المستقيل ناصيف حتي تسطير استقالة وجيزة أو تقليدية أو بروتوكولية صرفة، بل كتب بياناً في أكثر من 350 كلمة لم يشرح فيه أسباب استقالته بقدر ما شخّص جملة من الأمراض والاختلالات والمخاطر التي يمكن أن تجعل لبنان «ينزلق للتحول إلى دولة فاشلة». هذا، في نظره، بلد يفتقر إلى رؤية تتيح الإيمان به «وطناً حراً مستقلاً فاعلاً ومشعاً في بيئته العربية وفي العالم»، كما تغيب عنه «إرادة فاعلة في تحقيق الإصلاح الهيكلي الشامل المطلوب الذي يطالب به مجتمعنا الوطني ويدعونا المجتمع الدولي للقيام به».
ولقد أوضح حتي أنه وافق على المشاركة في الحكومة الراهنة من «منطلق العمل عند ربّ عمل واحد هو لبنان»، لكنه وجد «أرباب عمل ومصالح متناقضة»، وهذا تفصيل يلفت الانتباه بالنظر إلى أن «التيار الوطني الحر» هو الذي رشّح حتي لحقيبة الخارجية في حكومة حسان دياب، الأمر الذي يعني أن قادة هذا الحزب، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية ميشيل عون نفسه، هم في عداد أولئك الأرباب متناقضي المصالح مع لبنان بوصفه ربّ العمل الواحد والوحيد.
ولم يكن حتي أقل وضوحاً حين نصّ بيانه على مطلب «إعادة النظر في العديد من السياسات والممارسات من أجل إيلاء المواطن والوطن الأولوية على كافة الاعتبارات والتباينات والانقسامات والخصوصيات»، وكذلك التشديد على أن «المطلوب في عملية بناء الدولة عقول خلاقة ورؤيا واضحة ونوايا صادقة وثقافة مؤسسات وسيادة دولة القانون والمساءلة والشفافية». وهذه إشارات واضحة تخصّ شخص رئيس الحكومة مباشرة، وتوحي بأن خياراته حتى الساعة كانت أدنى مما هو مطلوب، خاصة في ظل ما يشهده لبنان من «أزمات متعددة الأشكال والأسباب سواء في الداخل أو في الإقليم».
وهذه أقرب إلى مضبطة اتهام في الواقع، لكنها تتوجه إلى الجهة ذاتها التي رضي حتي أن يشترك في مشروعها الحكومي الذي صيغ على عجل وفي سياق محلي متفجر، على وقع انتفاضة شعبية عارمة طالبت بإصلاحات جذرية وعميقة تحاسب القشرة السياسية العليا بمكوناتها كافة ومن دون استثناء. والإنصاف يقتضي القول إن خبرته السياسية المحلية والعربية كانت كفيلة بتنبيهه إلى ضرورات التروي قبل الانضمام إلى حكومة انفرادية تهيمن عليها أطراف «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» و«حركة أمل»، ولا تَعِد برامجها بأي جديد على صعيد إيجاد حلول الحدّ الأدنى لمآزق البلد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي أدنت شرائح واسعة من اللبنانيين إلى حافة المجاعة.
وإذا صح أن بعض أسباب الاستقالة تعود إلى تكليف شخصيات أمنية نافذة بمهامّ دبلوماسية خارجية تدخل في صلب عمل وزارة الخارجية، فهل كان الوزير المستقيل يجهل حقاً أن تقاليد العمل الحكومي في لبنان تعاني من أمراض شتى ليس هذا التجاوز أشدها أذى، فما بالك بهذه الحكومة على وجه التحديد؟
استقالة حتي تشكل انتكاسة أولى جوهرية لحكومة دياب، فالرجل كان «واجهة المخزن» كما يُقال، أمام العالم والدبلوماسية الدولية على الأقل. صحيح أن من المبكر التكهن حول ما إذا كانت الحكومة ستشهد استقالات أخرى، ولكن ليس مستبعداً أن تكون لهذه الاستقالة عواقب أبعد على بنية حكومية متصدعة أصلاً.
القدس العربي