“في 13 آب/أغسطس، عقد معهد واشنطن منتدى سياسي افتراضي مع صالح المشنوق وحنين غدار وماثيو ليفيت وتشارلز ثيبوت. والمشنوق هو كاتب عمود في صحيفة “النهار” اللبنانية وزميل لمرحلة ما بعد الدكتوراه في “جامعة كامبريدج”. وغدار هي زميلة “فريدمان” في المعهد وصحفية سابقة عملت في الإعلام اللبناني. وليفيت هو زميل “فرومر-ويكسلر” في المعهد، ومدير برنامج “راينهارد للاستخبارات ومكافحة الإرهاب”، ومبتكر “الخريطة التفاعلية والجدول الزمني لمجموعة مختارة من الأنشطة العالمية لـ «حزب الله» اللبناني” التي تم إصدارها حديثاً. وثيبوت هو دبلوماسي فرنسي وزميل زائر مقيم في المعهد. وفيما يلي ملخص المقررة لملاحظاتهم”.
صالح المشنوق
يبدو أنّ انفجار بيروت شكّل منعطفاً في نفسية اللبنانيين، حيث تغيب الرغبة في لبنان في العودة إلى العمل كالعادة، لا سيّما بعد “ثورة تشرين الأول/أكتوبر” التي بدأت في عام 2019 والانهيار المالي الذي نتج عن خلل النظام السياسي. ويُدار لبنان من قبل رابطة المافيات والميليشيات، حيث توفّر المافيات الغطاء السياسي للميليشيات بينما تحمي الميليشيات المافيات. ويشكّل الانفجار في بيروت ذروة التراكم التدريجي لسلطة رابطة المافيات-الميليشيات.
ويتّسم بروز رابطة المافيات-الميليشيات في السياسة اللبنانية بثلاثة أحداث جرت في التاريخ الحديث بقيادة «حزب الله» وهي: (1) اجتياح الحزب لبيروت في عام 2008؛ (2) وإطاحته بالحكومة في عام 2011 باستخدامه القوة العسكرية؛ (3) وتدخّله لمدة عاميْن في السباق الرئاسي في البلاد، ومنع التصويت إلى حين انتخاب ميشال عون في عام 2016. وجاء الآن انفجار بيروت.
وفيما يتعلق بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فقد تم الترحيب به في لبنان كبطل شعبي خلال زيارته التي أعقبت الكارثة. وبالفعل، هناك مجموعة كبيرة من الجهات الفاعلة اللبنانية مستعدة للتعامل مع فرنسا كوسيط. بالإضافة إلى ذلك، كانت فرنسا حازمة في الدعوة إلى إنهاء الفساد اللبناني. لكن فرنسا أصبحت تُعتبَر أيضاً وبشكل متزايد كمَنْ فشلت في الاعتراف بدور المافيات في رابطة المافيات-الميليشيات في لبنان، وتُعامِل بالأحرى المافيات على أنها ممثّلة شرعية للشعب. وما يجسّد هذا التصور بأفضل شكل هي العلاقة الشخصية التي تربط الرئيس ماكرون برئيس الوزراء السابق سعد الحريري وإكثاره من استخدام بعض المصطلحات مثل “العقد الوطني”، مشيراً إلى الأساس الثلاثي الأطراف الذي بُنيَت عليه الدولة اللبنانية الحديثة. بالإضافة إلى ذلك، لا يرى معظم اللبنانيين فرنسا كطرف حيادي بل بالأحرى كصاحبة مصلحة أساسية في البلاد. لذلك، يجب أن تستخدم الولايات المتحدة نفوذها كلاعبة أساسية لتكمّل الدور الفرنسي. وما يردع كذلك الحياد اللبناني هو دور «حزب الله» المزعزع للاستقرار، والذي يدعو إلى توازن النفوذ الأجنبي.
على الولايات المتحدة أن توقف التعامل مع وزير الخارجية اللبناني السابق وعضو “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، الذي يحتقره الجميع في البلاد. فوفقاً للنظرة المحلية، يتمتّع باسيل بعلاقات مع الولايات المتحدة بينما يستخدم روابطه مع «حزب الله» للتفاوض حول مواضيع مثل الحدود البحرية. بإمكان واشنطن متابعة مصالحها المشتركة مع لبنان عبر سبلٍ أخرى.
حنين غدار
ردّت رابطة المافيات-الميليشيات في لبنان بطريقتيْن على انفجار بيروت. أوّلاً، جعلت الحكومة تستقيل، متوقّعةً أن يؤدي ذلك إلى تهدئة غضب الشارع وكسْب التأييد الدولي. لكنّ هذه الاستراتيجية فشلت لأنّ المجتمع الدولي والشارع اللبناني على حدٍّ سواء يدركان أنّ الحكومة الحاليّة هي كبش فداء، وأنّ أصحاب النفوذ الحاليين سيصمدون في غياب تغييرات أوسع. ومع ذلك، تشير الاستقالة إلى أنّ «حزب الله» يدرك فشل حكومته والناس يعلمون ذلك. وكان الرد الثاني لرابطة المافيات-الميليشيات هو فرض حالة الطوارئ، ووضع المسؤولية على الجيش والسماح له باستهداف وسائل الإعلام والمحتجّين.
ولا يمكن لـ «حزب الله» أن يتغير بشكل هادف لأنه مرتبط بشكل جوهري بالمشروع الإقليمي الإيراني. ففي الماضي، نشأت التغييرات التي حققها الحزب من البراغماتية، مع التطلع إلى كسب سيطرة طويلة المدى. إلا أنّ قاعدة الحزب تتغير. فتقوم شرعيتها على ثلاثة أركان هي: المقاومة، وتوفير الخدمات، والهوية الشيعية. وقد تداعى عنصر المقاومة في السنوات الأخيرة، لا سيّما منذ إعلان الأمين العام حسن نصرالله أنّ الأولوية بالنسبة إلى الحزب هي سوريا، والدفاع عن نظام الأسد، بدلاً من الردّ على الهجمات الإسرائيلية. أمّا الركن الثاني فيتعثر بسبب الأزمة المالية التي يعاني منها «حزب الله»، حيث لم يعد يُعتبر حامياً ومموّناً. لذلك، يرتكز جزء كبير من شرعيته حالياً على الركن الثالث.
ويختلف عام 2005، الذي شكّل المثال الأخير للتغيير السياسي الحقيقي في لبنان، عن الوضع اليوم في ثلاث نواحٍ أساسية. أولاً، تُرجِم غضب الشارع في عام 2005 بنجاح إلى دبلوماسية دولية ذات أهداف واضحة، مع تلاقي كلٍّ من المبادرات الداخلية والخارجية على الأهداف نفسها. وثانياً، كانت المعارضة السياسية متواجدة في عام 2005 حيث جسّدها معسكر 14 آذار. وفي المقابل، يهتف المتظاهرون اليوم “كلّن يعني كلّن”، وهو نداءٌ للإزاحة الجماعية للنُّخَب، مع عدم الاعتراف بمعارضة قائمة كبديل مقبول. ثالثاً، في عام 2005 قام الجيش بحماية المحتجّين، بينما انقلب عليهم اليوم، حيث شجعته حالة الطوارئ. على الولايات المتحدة أن تحثّ “الجيش اللبناني” على حماية المحتجّين.
ويتمتع أبناء الشارع اللبناني برؤية مستقبلية، لكنهم ما زالوا يفتقرون إلى الطريقة الواضحة لتنفيذها، حتى بينما تسير مطالبهم في الاتّجاه الصحيح. ففي العام الماضي، تمّ التشديد على استقالة الحكومة؛ واليوم، ينصبّ التركيز على تنحية الرئيس. يجب على المتظاهرين المحليين التنسيق اليوم مع المجتمع الدولي، كما حصل في عام 2005.
وفي غضون ذلك، على المجتمع الدولي أن يدفع باتّجاه قيام تغيير حقيقي في لبنان، مما يعني رفض دعم تشكيل حكومة وحدة وطنية أخرى. فلبنان بحاجة إلى انتخابات، لكن من غير الواضح كيف يمكن سنّ قانون انتخابي جديد في ظلّ حالة الطوارئ. وقد تتمثّل الخطوة الأولى في تشكيل حكومة انتقالية برئاسة مرشّح مستقل. وتم اقتراح نواف سلام لهذا المنصب. يجب على المجتمع الدولي أيضاً الضغط من أجل إجراء تحقيق مستقل في الانفجار، وأن يتجنب العمل عبر القنوات الحكومية عند إرسال المساعدات الإنسانية.
وعلى المدى الطويل، يحتاج لبنان إلى تصوّر نوع النظام الذي يريده فعلاً. فالنظام الطائفي فاشل ويجب استبداله إما من خلال التطبيق الصحيح لـ”اتفاق الطائف” لعام 1989 أو عبر إنشاء اتفاق جديد.
ماثيو ليفيت
إن التحدي الحالي للنظام السياسي اللبناني الفاسد يهدد «حزب الله» أكثر مما يهدد أي من أحزاب المافيا الأخرى. كما أنه يمثل وضعاً غير مريح للحزب. فـ «حزب الله» عادةً ما يواجه تحدياً بسبب نزعته القتالية. واليوم، يتم الطعن في سياسته.
و«حزب الله» هو الحزب الطائفي الوحيد الذي يشكّل جزءاً من النظام ويتمركز في الوقت نفسه فوق هذا النظام، وقد استخدم هذه المكانة الفريدة بطرقٍ لم يستخدمها اللاعبون الآخرون من المافيات-الميليشيات. فعلى سبيل المثال، مارس هذا الحزب الترهيب على المصارف لمنع تنفيذ الآليات الدولية الأساسية لمكافحة تبييض الأموال – ولا سيّما من خلال تفجير “بنك لبنان والمهجر” في لبنان. علاوة على ذلك، ووفقاً لوزارة الخزانة الأمريكية، عمل النائب أمين شرّي على تخويف المصرفيين وأفراد عائلاتهم لضمان استمرار «حزب الله» في تلقي التمويل المحلّي. وفي أعقاب قضية “جمّال ترست بنك”، أشار كبار المسؤولين الأمريكيين إلى حدوث النوع نفسه من التهويل (التنمّر) والإساءة في مؤسساتٍ أخرى، بما فيها “المصرف المركزي”.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه لا فرقٍ بين الأجنحة المختلفة لـ «حزب الله». وتتجلى هذه المرونة في حالة النائب محمد حسن رعد الذي يتعامل مع رئيس جهاز أمن «حزب الله»، وفيق صفا، لتحديد الأفراد الذين يمكنهم الحصول على جنسية مزدوجة من أجل تنفيذ عمليات في الخارج. كما أن «حزب الله» هو الحزب الوحيد المستعد لاستخدام أسلحته ضدّ زملائه اللبنانيين عندما يتعرّض للتحدي والقادر على ذلك. فهو يملك ترسانة أكبر، وأفضل تمويلاً، وأكثر تطوّراً من ترسانة “الجيش اللبناني”.
وفيما يخص انفجار بيروت، من الخطأ التركيز حصراً على أنشطة محددة ربما كان «حزب الله» يمارسها في المرفأ قبل الكارثة. يجب على الأطراف المعنيّة أن تنتظر تحقيق دولي موثوق قبل التكهن بمثل هذه الأمور. فما يتّضح من خلال بعض الوثائق غير السرّيّة التي تعود إلى وزارة الخزانة الأمريكية هو أنّ وفيق صفا كان يدير الأمور خارج المرفأ. وعلى نطاقٍ أوسع، غالباً ما يتّخذ «حزب الله» قرارات مصيرية للشعب اللبناني لخدمة مصالحه الخاصة وبناءً على طلب إيران، وذلك بشكلٍ مستقلٍّ عن “الجيش اللبناني” والحكومة المركزية. فحتى قبل انفجار المرفأ، كان الحزب معروفاً باستخدام منشآت الأبنية لإخفاء صواريخه الدقيقة التوجيه في المناطق المدنية من بيروت، باستخدامه بشكل فعال المواطنين اللبنانيين كدروع بشرية.
تشارلز ثيبوت
تتزعم فرنسا الرد الدولي على انفجار بيروت لقربها التاريخي والمجتمعي من لبنان. ففرنسا لم تتولّى الانتداب في لبنان بعد الحرب العالمية الأولى فحسب، بل أن عدداً كبيراً من اللبنانيين ثنائيي الجنسية يعيشون في فرنسا، مما يعزز الروابط [بين البلدين]. وفي الآونة الأخيرة، انتشر مقطع فيديو على نطاقٍ واسعٍ لمزارع فرنسي لا علاقة له بلبنان يعرض التبرع بِطَن من القمح للبلاد.
وكان هدف الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس ماكرون، بالإضافة إلى إظهار التضامن، هو إيجاد حلول للبنان على المدى القريب والمتوسط والطويل. وتمّ عرض ما يركّز عليه المدى المتوسط في وقتٍ سابقٍ في مؤتمر “سيدر” لعام 2018 الذي استضافته فرنسا، مع التشديد على الاقتصاد الكلّي وعلى إطار عمل واضح لتقديم المساعدة الماليّة الدولية. وتُعد زيارة ماكرون أيضاً بمثابة تذكير للبنان بالإصلاحات الضرورية لجذب المساعدات والتعاون الدولييْن.
ولا يمكن أن تَحدث هذه الإصلاحات دون قيام ثورة سياسية، ويجب أن يأتي التغيير من عملية يقودها اللبنانيون لكي يكون فعّالاً وشرعيّاً. وتبقى درجة قدرة القوى الخارجية على السعي إلى إحداث التغيير في الإطار السياسي اللبناني محدودة فعلاً. ولا تستطيع فرنسا، على وجه التحديد، أن تبالغ في دورها التوجيهي. لكن زيارات القادة الدوليين إلى لبنان بعد الانفجار توجّه رسالةً حول الحاجة الماسّة إلى التغيير.
وقد تغيّرت أيضاً ذهنية الجهات المانحة الدولية. فأصبحت تريد الآن تطبيق المزيد من الشروط المتعلقة بأموالها، ولم تعُد تلك الأنواع من هبات الأموال الضخمة للبنان التي سادت بعد الحرب الأهليّة وفي عام 2006 ممكنة بعد الآن. ودعت عدة بلدان إلى الشفافية والمساءلة في المساعدات الدولية. وفي تغيير آخر عن الأعوام السابقة، أبدت الجهات المانحة استعدادها لتجاوز الحكومة اللبنانية وتقديم المساعدات مباشرةً إلى المنظمات اللبنانية غير الحكومية. وسيكون التحدي المرتبط بذلك هو معرفة كيفية الجمع بين مختلف أنواع المساعدات الدولية، بدءاً من التبرعات الكبيرة والشاملة من بعض الهيئات مثل “صندوق النقد الدولي” ووصولاً إلى الأعمال الأصغر حجماً التي تقوم بها المنظمات غير الحكومية.
ويُقرّ أصحاب المصلحة أيضاً بالحاجة إلى إعادة التفكير في الطريقة الكاملة لتقديم المساعدات، والانتقال من النموذج السابق حيث كانت عملية التسليم تجري من دولة إلى أخرى، إلى إطار عمل بين المجتمعات. وسبق أن ظهر هذا التوجه عبر الهبات التي قدّمتها الشركات الخاصة إلى لبنان. ولا شكّ في أنّ الوباء سيحدّ من قدرة العديد من البلدان على التبرع. وفي غضون ذلك، حدّد ماكرون موعداً للقيام بزيارة أخرى للبنان في أوائل أيلول/سبتمبر، مشيراً إلى أنّ عمليةً ذات نطاقٍ أوسع قد بدأت للتوّ.
معهد واشنطن