ليست الولايات المتحدة القوة الأجنبية الوحيدة التي تثير مشاعر العداء في إيران. إذ يعمّ البلاد إحساس بالشك العميق والريبة تجاه بريطانيا أيضاً، وهو شعور ناجمٌ عن أحداث من التاريخ الحديث من المُستبعد نسيانه أو غفرانه في المستقبل القريب.
وينعكس هذا الموضوع على السيناريو الذي يجري حالياً مع سعي الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى تخريب الصفقة النووية التي أبرمتها البلاد مع القوى الدولية – وهي صفقة لا تألو المملكة المتحدة وغيرها من الدول الموقّعة على الاتفاقية جهداً في سبيل الحفاظ عليها. لكن أميركا ليست الطرف الوحيد المُلام في إيران على الانهيار شبه التام للاتفاقية التي كان من المفترض أن تفتح البلاد على العالم الخارجي، مع كل ما يصاحب هذا الوضع من مكافآت.
قال لي الناخب الإيراني علي رضا وهو يُسقط بطاقته في صندوق الاقتراع أثناء الانتخابات النيابية هذا العام في طهران “نعلم ما الذي تقوله بريطانيا في العلن، لكن ما يثير شكوكنا هو ما قد تفعله في السرّ. نعلم ماذا فعلوا لـ(رئيس الوزراء المخلوع) مصدّق. ولا يسعنا أن ننسى كذلك دور بريطانيا في المجاعة التي وقعت خلال الحرب العالمية الأولى حين لقي الملايين حتفهم بعد استيلاء الجنود البريطانيين على وسائل النقل المُستخدمة لإيصال المواد الغذائية”.
تكرّر تصوير بريطانيا على أنها ذاك الطرف الماكر الذي دائماً ما ينتهي به المطاف بمساندة أميركا على لسان إيرانيين يعارض العديد من بينهم حكومتهم الحالية، وهم من يمين الساحة السياسية كما يسارها، وسط الانهيار الاقتصادي الذي أفضت إليه العقوبات الأميركية. “في النهاية، سوف ينصاع بوريس جونسون لأوامر ترمب”، وفقاً لابراهيم درباندي، الذي عبّر عن اعتقاده الراسخ فيما كان ينتظر دوره للتصويت داخل حسينيّة العاصمة.
مُنيت أميركا بهزيمة كبيرة داخل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الأسبوع الماضي حين حاولت تمديد حظر الأسلحة على إيران من دون أن يُؤيّد طلبها أحد ما خلا جمهورية الدومينيكان. فقد صوّتت روسيا والصين ضدّ الطلب، فيما امتنعت بريطانيا وفرنسا وألمانيا عن التصويت، مثيرةً بذلك استياء واشنطن.
ورداً على هذا، غرّد الرئيس ترمب من نادي الغولف الذي يملكه أنّ الولايات المتحدة ستتّجه فوراً نحو إعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة كافة على إيران، وهو ما يمكن أن يحدث في حال تبيّن أنّ البلد ينتهك شروط الاتفاق النووي. والاحتمال ضعيف في أن يحصل على دعم الدول الأخرى الموقّعة على الاتفاق أو مجلس الأمن. لكن خطوط المعركة قد رُسمت، أقلّه حتّى إجراء الانتخابات الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) التي قد تجلب إدارة أميركية جديدة من الديمقراطيين.
ويشهد يوم الأربعاء تذكيراً تاريخياً بأحد الأحداث التي شكّلت ملامح العلاقة الحالية بين إيران والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، مع إطلاق الوثائقي “انقلاب 53” الذي يتناول عملية الإطاحة برئيس الوزراء الإيراني المنتخب ديمقراطياً، محمد مصدّق، من أجل وضع شاه إيران مكانه.
ويُعرض الفيلم، وهو إنتاج جيد جداً للمخرج الإيراني تقي أميراني، للمرة الأولى تزامناً مع الذكرى السابعة والستين للانقلاب. وهو يوضح المخطط الذي اتبعته واشنطن ولندن من أجل عزل مصدّق عن منصبه، ويعرض مقابلات مع كثير من الأشخاص المعنيين بالأحداث – من قوميين إيرانيين دعموا رئيس الوزراء، إلى مناصري الشاه الأوفياء، ومسؤولين بريطانيين وأميركيين.
كسب الزعيم التقدمي العلماني مصدّق عداوة الحكومة البريطانية إجمالاً بعد تأميمه شركة النفط الأنجلو – فارسية (وأصبح اسمها بريتش بتروليوم)، التي كانت الحكومة البريطانية تمتلك 51 في المئة من أسهمها إلى جانب الحقّ الحصري باستخراج النفط الإيراني. ومع تدهور العلاقات بين البلدين، قطعت إيران علاقاتها الدبلوماسية بالمملكة المتحدة وطردت أعضاء الطاقم الدبلوماسي العامل في السفارة بالإضافة إلى مجموعة من الجواسيس.
ويذكر الوثائقي معارضة الأميركيين في البداية لدعم المخططات البريطانية من أجل الإطاحة بحكومة منتخبة ديمقراطياً شكّلت برأيهم حصناً في مواجهة الاستبداد الشيوعي. ورفض مركز وكالة الاستخبارات المركزية CIA في بيروت مقترحات جهاز المخابرات البريطاني MI6 بشأن تنفيذ انقلاب. وسعت لندن إلى الحصول على دعم واشنطن في استعادة حقوق استخراج النفط. لكن شعور الأحقية الذي صبغ سلوك البريطانيين بلغ درجة من التعالي دفعت بـ”دين آتشيسون”، وزير الخارجية في عهد الرئيس هاري ترومان، إلى إدانته وازدرائه، معتبراً إياه “مدمّراً وعازماً على تطبيق سياسة السيطرة أو الهلاك في إيران”.
لكن هذا الموقف تغيّر مع استلام إدارة دوايت آيزنهاور الحكم. جدّد البريطانيون محاولاتهم المتواصلة والمكثّفة لحشد الدعم. وزعم ونستون تشرشل أمام الرئيس الجديد أنّ مصدّق- الذي انتقد الشيوعية علناً – سوف يميل نحو حزب توده الشيوعي الإيراني الموالي لروسيا: في الوقت الذي بلغت الحرب الباردة ذروتها، وفي ظلّ الخوف من المدّ السوفياتي، عدّلت الولايات المتحدة موقفها.
يحمل هذا الحدث في طياته أصداء مشهد آخر من العدوان الأنجلو أميركي على الشرق الأوسط – وهو اجتياح العراق في العام 2003 بناء على المزاعم الكاذبة بشأن امتلاك صدّام حسين أسلحة دمار شامل. وأحد أوائل من قدّموا معلومات ملفّقة في هذا الشأن هو أحمد الجلبي، العراقي الذي عاش في المنفى واستقرّ في لندن.
اعتبر المسؤولون الأمنيون البريطانيون الجلبي مكسباً ثميناً، هو الذي اتّهم مرات في إطار عمله التجاري بالاحتيال والنصب وحكمت عليه محكمة أردنية غيابياً بالسجن 22 عاماً بسبب صفقة احتيال مصرفية مزعومة بلغت قيمتها 70 مليون دولار.
ونقلوا بكلّ حماسة مزاعمه حول الترسانة العراقية المُفترضة إلى واشنطن، حيث لم تلقَ من إدارة كلينتون سوى التشكيك. لكن كل ذلك تغيّر مع استلام جورج بوش الابن مقاليد الحكم. وشنّت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة حينها حملة دعائية لتبرير اجتياحها للعراق على أساس وجود تهديد من أسلحة الدمار الشامل. ودخل ضمن هذه الحملة “الملفّ الملفّق” الشهير، ولنتذكّر أنه من إنتاج حكومة توني بلير في لندن ولم يصدر عن واشنطن. ثم حلّت الحرب وتداعياتها الكارثية.
عاد الجلبي إلى العراق بحماية أميركية في العام 2003 بعد الاجتياح. وحضرت أوّل مؤتمر صحافي له في نادي الصيد في بغداد، الذي أمّنت القوات الأميركية حراسته. لم يُسمح للإعلام الأجنبي بطرح أي سؤال حول أسلحة الدمار الشامل أو غيرها. أمّا المُناصر الوحيد الذي كان يجول في الشارع خارج النادي حاملاً صورة الجلبي، وهو أحد أبناء عشيرته، فقد أطلق عليه الرصاص سائق سيارة مرّ في المكان.
اختلف الأميركيون مع الجلبي في مرحلة من المراحل واتّهموه، هو الشيعي، بالتجسس لإيران الشيعية. واقتُحمت مكاتبه في بغداد. ثم أصبح نائباً لرئيس الوزراء في سياق المسار الفوضوي للسياسة العراقية وتوفّي منذ خمس سنوات.
وبالعودة إلى إيران، انطلقت “عملية آجاكس” في العام 1953 بهدف عزل مصدّق، من خلال حملة دعائية وتدخّل مقترح في الانتخابات في المرحلة الأولى، فيما أعطى رئيس وكالة الاستخبارات المركزية آلان دلس موافقته على تخصيص مبلغ مليون دولار لاستخدامه “بأي طريقة تؤدي إلى إسقاط” رئيس الوزراء.
ونجح الانقلاب. تعرّض العديد من مناصري مصدّق للاعتقال والتعذيب، فيما كان الإعدام مصير البعض الآخر ومنهم وزير الخارجية حسين فاطمي. طالب المدّعون العامون بسجن مصدّق مدى الحياة لكن المحكمة أصدرت عليه حكماً بالسجن ثلاث سنوات في معتقل عسكري. ووُضع قيد الإقامة الجبرية بعدها حتّى تاريخ وفاته في العام 1967. لم يُسمح بإقامة جنازة علنية لرئيس الوزراء السابق بسبب مخاوف من تحوّل قبره إلى مزار سياسي، ودُفن بالتالي تحت غرفة جلوسه.
نُسب جزء كبير من نجاح عملية مصدّق إلى كيرمت روزفلت، حفيد الرئيس ثيودور روزفلت ورئيس قسم الشرق الأدنى وأفريقيا في وكالة الاستخبارات المركزية. ومع أنّ الحكومة البريطانية نفت رسمياً أي علاقة لها بالانقلاب، تذّمر المسؤولون البريطانيون فترة طويلة في السرّ من عدم حصولهم على التقدير الملائم للدور الذي لعبوه.
لكن “انقلاب 53” يصوّب هذا المسار بعض الشيء، إذ يلعب رالف فاينز دور نورمان ديربيشاير، ضابط المخابرات في جهاز MI6 الذي كان مقرّه في قبرص ويزعم البريطانيون أنه المهندس الحقيقي للانقلاب.
لا تظهر في الوثائقي سوى صورة واحدة لديربيشاير، يضع فيها نظارات قاتمة اللون. توفي الرجل في العام 1993، ويقرأ فاينز شهادته حول الأحداث التي جرت حينها، وهي مأخوذة من مقابلة له في إطار سلسلة الأفلام الوثائقية “نهاية إمبراطورية” End of Empire التي أنتجتها محطة Granada TV في العام 1985، وهي شهادة لم تُعرض لأنه رفض أن يظهر على الشاشة.
يقدّم فاينز أداء درامياً مؤثراً. ويُصوّر لنا ديربيشاير كأنه نسخة عن جيمس بوند، كما جسّده روجر مور، عميلٌ لديه رخصة تنفيذ انقلابات. وقال إنه عزّز مكاسب المهمة لبريطانيا التي كانت تعيش حالة تقشّف في فترة ما بعد الحرب. وتفاخر بقوله “كلّف الانقلاب 700 ألف جنيه إسترليني. وأنا أعلم ذلك لأنني أنا من أنفق هذا المبلغ”. استخرج في إحدى المرّات معلومات استخباراتية ثمينة من مسؤول عسكري إيراني لقاء ما يعادل كيلو من شاي ليبتون تقريباً. ويقول بابتسامة راضية “لم يستطع الحصول عليه في بلاد فارس وهذا هو بالتحديد الثمن الذي دفعته له”.
لعب المال دوراً أساسياً في تنظيم المعارضة ضدّ مصدّق، وفقاً لديربيشاير. ساورت الشاه الشاب رضا بهلوي بعض الشكوك بشأن إسقاط رئيس الوزراء. وسافر عميل الـMI6 برفقة زميله في الـCIA ستيفن ميد إلى باريس من أجل مقابلة شقيقة الشاه، أشرف، في محاولة للحصول على مساعدتها في إقناع أخيها.
ويقول ديربيشاير “أوضحنا استعدادنا لدفع النفقات وعندما أخرجت رزمة كبيرة من الأوراق النقدية، لمعت عيناها وقالت إنها ستضطر فقط للذهاب إلى مدينة نيس لمدّة أسبوع من أجل ترتيب الأمور” ويضيف عميل المخابرات البريطانية اللبق والكتوم “كانت سيدة طائشة للغاية وأعجب بها ستيف، الذي يُعجب بكل شيء”.
كان ديربيشاير، بالتعاون مع عائلة رشيديان الإيرانية الثرية، قد اقترح تنفيذ انقلاب سابق. لكن ما أثار استياءه أنّ اقتراحه لم يلق اهتمام وكالة الاستخبارات المركزية ولا كبار مسؤولي المخابرات البريطانية. ويقول “في الأشهر الأولى من العام 53، كنا نحضّر مع عائلة رشيديان واعتقدنا أنه لدينا ما يكفي من الوحدات العسكرية كي نتحرّك لكن لندن بدأت تتردد وتخاف”.
ويقول ديربيشاير (فاينز) بازدراء “للأسف، كانت معرفة رئيس جهاز الاستخبارات السرية في ذلك الحين، الجنرال (جون) سنكلير بالشرق الأوسط لا تتخطى ما يعرفه صبي في العاشرة من عمره، (وكانت) لعبة الكريكيت تهمّه أكثر بكثير على العموم”.
ومن وجهة نظر بديلة، ربّما رأى مدير جهاز الاستخبارات، وهو شخص يكنّ له زملاؤه داخل مجتمع الاستخبارات وافر الاحترام، جيداً المخاطر التي تواجهها بريطانيا إذا تورّطت بمغامرة من هذا النوع من دون دعم الأميركيين، نزولاً فقط عند رأي ضابط برتبة متوسطة.
يزعم ديربيشاير أنّه خطّط لعملية اختطاف رئيس جهاز الشرطة في طهران، الجنرال محمود أفشارطوس الذي لمع اسمه في البداية بسبب عمله على اقتلاع الفساد من صفوف قوات الأمن. وتعرّض أفشارطوس الذي تلقّى ترقية من الشاه، إلى التعذيب والخنق. وأثارت أنباء مقتله مشاعر الصدمة والغضب، وساهمت في الاضطرابات التي تلتها.
لكن ديربيشاير أراد الإشارة إلى أن غير مذنب في هذه القضية. إذ بحسب زعمه “وقع خطأ: اختُطف واحتُجز داخل كهف. كانت المشاعر جيّاشة ولم يتصرّف أفشارطوس بحكمة عندما أدلى بتعليقات مهينة بحقّ الشاه. كان تحت حراسة ضابط شاب في الجيش، وسحب الضابط مسدّسه ثمّ أطلق عليه النار. لم يتضمّن مخططنا هذه الخطوة أبداً لكن هكذا جرت الأمور”.
يتساءل المرء كيف كانت الأحداث لتجري لو التزم الأميركيون بحدسهم الأساسي وارتيابهم بشأن انقلاب إيران وأسلحة الدمار الشامل في العراق. لكنهم لم يفعلوا، وها نحن اليوم نشهد على إرث الصراعات والمعاناة الذي خلّفه هذا القرار في الشرق الأوسط.
اندبندت عربي