العراق الذي لا بد أن يكون

العراق الذي لا بد أن يكون

نعم، ودون تردد، إن بين المواطنين العراقيين المحرومين المنهوبين المقموعين وبين أحزاب السلطة والبرلمان والميليشيات شرخا عميقا لا أمل في لحامه، لا اليوم ولا غدا ولا بعد سنين، إلا بمعجزة، وزمن المعجزات قد انتهى في العصر الحديث الذي أصبحت فيه الشعوب لا تصنع العجائب بالعضلات والشعارات وتجارة الرقيق والخرافة، ولا بهمجية السلاح والاغتيال والاحتيال، بل بالعلم والتكنولوجيا، وبثقافة التعايش السلمي بين الحكومات والحكومات، وبين الشعوب والشعوب، وبأخلاق عصر السفن الفضائية التي تتجول بين النجوم، ونحن في العراق ما زال بيننا وبينها سفر طويل.

أما حين تجد عراقيين يقتلون عراقيين فإنك مدرك لا محالة، أن مصطفى الكاظمي وأي آخر يجلس على كرسي الرئاسة، حتى لو كان الإسكندر المقدوني أو هولاكو، لن يضرب الأرض بعصاه فتتفجر الينابيع وتزدهر الحقول وتمتلئ الملاعب والساحات والميادين بالفرحين السعداء المتآلفين، وليس بحملة السلاح الجهلة والقتلة المجانين.

إذ كيف ومتى ينتصر شعب، كشعبنا، يُمسك بخناقه حكامٌ مسلحون بالغاز السام والصواريخ والكواتم والسكاكين، وبالخرافات والأساطير، ويرضى بعضٌ من أبنائه بأن يحمل سلاحهم، فيقتل لهم خصومهم، وهو عارف أنهم يضحكون في ما بينهم وراء الكواليس، ويسخرون من المغفلين الذين يصدقونهم فيما يدعون.

المحزن أن يسكت الشعب العراقي عن كل من له ضلع، من قريب أو بعيد، في تخريب أو تهريب أو تزوير أو قتل أو اختلاس، بدءًا باغتيال عبدالمجيد الخوئي في النجف، ومرورا بجرائم التطهير الطائفي

كنا، منذ سنين مرة طويلة، ندبج أطنانا من المقالات والدراسات والشهادات التي تقول إن العراق، يا جماعة، يتحول إلى خرابة بفعل ديمقراطية الخنجر والساطور التي زرعها بول بريمر وعلي السيستاني، وكان يكذبنا كثيرون، ويدافعون عن العملية السياسية الخائبة، ويتذرعون بشرعية انتخابات هم أدرى من غيرهم بأنها مغشوشة، ثم يتطوعون لاغتيال بعضٍ منا بالكواتم، ولقطْع ألسنة بعضنا الآخر بالسكاكين، ويتهموننا بالعمالة والصهيونية والبعثية والوهابية ونحن من كلها أبرياء، مواطنون محبون لوطنهم وشعبهم وصادقون.

إلى أن جاءت واحدة من أهل الأمم المتحدة لتؤيدنا ولتقول للعالم كله بصراحة، إن الدولة العراقية قد بلغت أرذل عمرها، وأخذت مكانها في كعب قائمة الدول التي لا معنى لوجودها، على أيدي حكامها المختلسين المزورين، وبرصاص خدمهم وعبيدهم المجانين.

أحاطت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق، جينين هينيس- بلاسخارت، مجلس الأمن الدولي بآخر أخبار العراق، فقالت، وباختصار شديد “إن نسبة الفقر قد ارتفعت بما يزيد على عشرة في المئة خلال الأشهر الأخيرة. ويعيش ثلث عدد سكان العراق الآن تحت خط الفقر، ويعاني اثنان من كل خمسة عراقيين من حرمان متعدد الأوجه في الحصول على الخدمات والحقوق الاجتماعية الأساسية”.

“يُعد الاستهلاك الغذائي لما يزيد على ثلاثة ملايين عراقي غير كافٍ بسبب انخفاض القوة الشرائية وليس ندرة المواد الغذائية”.

“في ما يخص القطاع التعليمي، عانى ما يزيد على أحد عشر مليونا من تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات في أنحاء العراق من تعطيل دراستهم”.

“تضاعف العنف القائم على النوع الاجتماعي على نحو مقلق، فيما تتضاءل الخيارات في طلب المساعدة أو الحصول على مأوى أمام الضحايا”.

“من المتوقع أن يشهد العراق انخفاضا في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 9.7 في المئة”.

“قد انخفضت إيرادات النفط التي تأثرت بشدة بالانهيار الحاد في أسعار النفط، إلى النصف تقريبا”.

“لا ينبغي أن ننسى أن الفساد ما زال مستشريا، وأن تكلفته الاقتصادية لا توصف، فيما تستمر سرقة الموارد التي تمس حاجة المواطن العراقي العادي إليها، مما يزعزع الثقة لدى المستثمرين”.

“المظالم التي لم تُحل منذ أمدٍ بعيد لم تختفِ، ويريد العراقيون إسماع صوتهم. ففي الأشهر الأخيرة، استمرت الاضطرابات الاجتماعية في أنحاء العراق، وإن انخفضت إلى حدٍ ما بسبب استمرار الجائحة”.

“من دواعي القلق الشديد ارتفاع وتيرة قتل واستهداف الناشطين والمدافعين عن حقوق الإنسان. إن إسكات الأصوات المسالمة بالضغط على الناشطين وعلى وسائل الإعلام، بإرباك المشهد أو حتى بأسوأ من ذلك بإراقة الدماء. هذا الإسكات المتعمد للأصوات المسالمة يشكل إهانة للحقوق الأساسية والكرامة”.

“يؤسفني كثيرا أن تواصل الجماعات المسلحة استعراض عضلاتها بشكل متهور، وتسعى، بشكل عام، إلى خلق بيئة من الترهيب الصريح”.

“هذا يعني، أنه في الوقت الذي يكون فيه المواطنون العراقيون في أمس الحاجة إلى بيئة مستقرة تتوفر فيها شروط السلامة والأمن، فإن قعقعة السلاح لا تتوقف”.

إذن، فإن واقعا مزريا إلى هذه الدرجة من الانحطاط، لا بد أن يجعل المعركة الفاصلة بين الصفوة الطيبة الشجاعة من أبناء الأجيال العراقية الجديدة معركة فاصلة، لا بد من خوضها حتى النهاية مع الجلادين. فإما الوطن وأهلُه وإما أعداؤه هؤلاء. ولا بقاء لكليهما معا، على قيد الحياة، وعلى أرض واحدة.

ولكن الجماهير التي تنتصر على حكامها هي التي لا تتكل على أحد غير إرادتها الحرة الشجاعة، والتي لا تبخل على وطنها بدم ودموع.

أما الجماهير التي تعيش في أحلامها، وتنتظر رئيس وزرائها، مصطفى الكاظمي، ليهبها الحرية والكرامة ولقمة العيش ظنا منها بأنه قادر على أن يفعل ما لم يفعله أحدٌ قبله، فهي واهمة. فقواته المسلحة التي تعد بمئات الآلاف ليست بإمرته، بل هي بإمرة خصومه الذين يقاتلونه بملابس الحكومة وسلاحها ومركباتها.

حين تجد عراقيين يقتلون عراقيين فإنك مدرك لا محالة، أن مصطفى الكاظمي وأي آخر يجلس على كرسي الرئاسة، حتى لو كان الإسكندر المقدوني أو هولاكو، لن يضرب الأرض بعصاه فتتفجر الينابيع

ثم إنه يقود حكومة ملفقة مرقعة كلُّ وزيرٍ فيها من لون ومن قماش مختلف متنافر مع أخيه الوزير الجالس عن يمينه، والآخر الجالس عن يساره في ديوان مجلس الوزراء.

ولأن المقدمات تصنع النتائج، فإن أي نظام يعود بالمجتمع إلى الوراء عشرات السنين، ويستنهض الفكر الظلامي المتخلف، والعصبيات القبلية، والنزعات الطائفية والعنصرية المتطرفة، ويعادي التحضر والتقدم والتطور، لا بد أن يصل، عاجلا أم آجلا، إلى واحدة من حالين، إما أن يعتاد زعماءُ النظام الأقوياء على واقع الاحتراب المصلحي في ما بينهم، وبينهم وبين جماهير شعبهم، فتصبح الفوضى والفساد وانعدام الثقة طبيعة ثابتة ودائمة، ثم يتعايش معها المجتمع العراقي، ويعتاد عليها المجتمع الدولي، أو أن تتمخض المعاناة الشعبية الضاغطة عن إرادة وطنية واعية قادرة على توليد جبهة ديمقراطية فاعلة تجبر الخارج على احترامها وتأييدها ودعمها، فتُسقط مافيات السياسيين المنحرفين الحاليين الذين اختطفوا الوطن في غفلة، وبرعاية الغازي الأميركي الجاهل بطبيعة المجتمع العراقي وتعقيدات محيطه الإقليمي المعقد.

والمحزن، حقيقةً، أن يسكت الشعب العراقي عن كل من له ضلع، من قريب أو بعيد، في تخريب أو تهريب أو تزوير أو قتل أو اختلاس، بدءًا باغتيال عبدالمجيد الخوئي في النجف، ومرورا بجرائم التطهير الطائفي الشنيع التي ارتكبتها أحزاب السفارة الإيرانية في بغداد، وانتهاءً باغتيال الشهيد هشام الهاشمي والشهيدة رهام يعقوب ورفاقهما الشهداء الآخرين. فهي كلُها، جرائم لا يمحوها تقادم الزمن، ولا استبدالُ أقنعة بأقنعة، ولا وجوه بوجوه، وأصوات بأصوات وشعارات بشعارات.

العرب