نزعة عداء المتشددين للآخر تطال الحيوانات الأليفة

نزعة عداء المتشددين للآخر تطال الحيوانات الأليفة

يطلق عدد من رجال الدين والدعاة فوضى فتاوى التحليل والتحريم، تصل إلى درجة العبث والاستهانة بطريقة التفكير السليمة. ووصل الأمر مؤخرا في مصر إلى وضع علاقة فقهية بين المسلمين والكلاب، الأمر الذي فتح الأبواب أمام جدل بيزنطي لا ينتهي.

طالت نزعة العداء الحاد لجماعات السلفية تجاه الآخرين الحيوانات الأليفة، وتجدّدت حالة الاستنفار ضد أحد علماء الدين عندما أفتى بطهارة الكلاب، وإمكانية تربيتها، وهو ما أثار استياء المدافعين عن حقوق الحيوانات.

وأثار طرح القضية غضبا لدى من اعتبروا الفتوى تبديلا لما هو معروف من الدين بالضرورة، ليكشفوا عن عداء غريب يمتد لجميع المخلوقات، ولم تسلم منه حتى الكلاب، مستندين في ذلك على نصوص غريبة ومفرغة من سياقها، وتجاهلوا أن للحيوانات الأليفة مهارات عديدة، وقد أثبت العلم فوائدها الكثيرة في القضايا الأمنية، ناهيك عن إفرازها بكتيريا نافعة للأطفال.

وتحولت إجابة مفتي الديار المصرية شوقي علام، عن سؤال طرح عليه حول حكم تربية الكلاب، إلى سجال فكري ديني بعد أن ردّ قائلا “الكلاب طاهرة ولا حرج في التعايش معها، ويمكن لأي شخص أن يصلي وإلى جواره كلب، وإذا جاء لعابه على بدنه أو ثوبه فلا داعي لإعادة الوضوء”، مستندا في ذلك إلى مذهب المالكية الذي يرى أن “الكلب طاهر وكل شيء فيه طاهر”.

فوضى الفتاوى

لكنّ السلفيين اعتبروا تربية الكلاب حرام شرعا، وكرّروا فتاوى لابن تيمية بحرمة الكلاب، وأعادوا نشر حديث سابق لأحد مشايخهم، وهو ياسر برهامي، الذي شرّع فيه قتل كلاب الشوارع، وحرّم تربيتها في المنازل.

ورد عبدالله رشدي، أحد المحسوبين على الفكر السلفي، على كلام المفتي بقوله إن الكلب نجس تماما مثله مثل الخنزير، ومجرد وجوده في البيت يمنع دخول الملائكة، وبيعه وشراؤه لا يجوزان شرعا مهما كانت سلالته.

ونشر البعض من السلفيين فتوى سابقة للشيخ ابن عثيمين تنص على عدم جواز اقتناء الكلاب، إلا في ما رخّص فيه الشرع، وهي ثلاث حالات فقط، لحراسة الماشية من الذئاب، وحراسة المزروعات، أو للصيد. ولا يحتاج تفسير حالة التشدد في العداء تجاه الكلاب استدعاء أسباب ترتبط بوجود خطر ما على صحة الإنسان نتيجة أمراض محتملة أو بسبب التخوف من قيام أحدها بعضّ شخص ما، وإنما ينبع التحريم من استسلام عفوي لدى التيار السلفي لأحكام التحريم والزجر والمنع، اتباعا لمنهج الأخذ بالأحوط لا الأيسر، واتساقا مع فكرة رائجة تقول بالأصل في الأمور التحريم لا الإباحة.

إلى جانب تشابه فكرة تربية الحيوانات الأليفة مع الكثير من الأمور المبهجة في حياة الإنسان والتي يحرص المتطرفون على تحريمها كليّا باعتبارها لهوا يشغل الإنسان عن ذكر الله، مثل الموسيقى، لعب الشطرنج أو الورق للتسلية، أو اقتناء اللوحات والتماثيل الجميلة.

وهناك رأي ما يشير بشكل واضح إلى أن العداء الشديد تجاه الكلاب يرجع إلى العداء والاختلاف الجذري مع المذهب المالكي، الوحيد بين المذاهب الفقهية الأربعة الذي يحكم بطهارة الكلب ولعابه وجسده وكل ما فيه.وتتخذ فكرة التحريم شرعيتها من الإطار الحاكم لمنهج تيار السلفية الأساسي، الذي يعتمد استخدام أحاديث الآحاد الظنية للوصول إلى أحكام فقهية قاطعة، خاصة إن كانت تنتمي لما يسمونه بالصحيحين (البخاري ومسلم).

تحريم للتحريم

يرى بعض الخبراء أن السلفيين يعارضون من يُجيز تربية الكلاب ويحكم بطهارتها، ليس بسبب موقف ما تجاه الكلاب، وإنما هُم يخشون من اتساع منهج توظيف العقل في الوصول إلى أحكام فقهية تتجاوز نصوصا موروثة تمنح قداسة دون وجه حق.

وفي هذا الصدد أكد أحمد صبحي منصور المتخصص في الفكر الإسلامي، أن انسياق السلفيين وراء حديث مكذوب رواه أبوهريرة يعادي الكلاب يتسق مع تصوراتهم الراسخة برفض العقل، والتمترس بأي نصوص شفاهية مروية، لا يوجد ما يُثبت صحتها، وقد عمل هؤلاء على ابتداع إسلام آخر يليق بأفكارهم المتشددة، التي تعتمد في الغالب على الحكايات المناقضة للقرآن والعقل معا.

وقال منصور لـ”العرب”، إن حديث العقل يشير إلى أنه لو كان الكلب حيوانا نجسا لما صحبه أهل الكهف معهم، وهم شباب أطهار وصفهم القرآن الكريم بأنهم “فتية آمنوا بربّهم، وزادهم هدى”.

وأضاف “أبوهريرة في تصوري واضع الثقافة السمعية التي يقوم عليها التشدد الديني لدى تيارات السلفية ومَن يطلقون على أنفسهم أهل السنة، وهو نفسه كان يحب القطط وسُمى أبوهريرة لحبه الجم لها، وله موقف عدائي من الكلاب، وقد تُرجم إلى مرويات تذمها وتتهمها بالنجاسة رغم مكانتها عند العرب، والتي وصلت إلى حد تسمية بعض القبائل العربية باسم كلاب”.

وواصل منصور حديثه، موضحا “بعيدا عن التشكيك في صحة حديث أبوهريرة بغسل الإناء سبع مرات من عدمه، إن ولغ فيه الكلب، فإن إعمال العقل في النص ذاته، يمكن أن يربطه بخصوصيات بعينها، تركز على فكرة الحرص على النظافة الصحية للإنسان، خاصة أن كلاب الصحراء الهائمة في شبه الجزيرة العربية في ذلك الوقت غير نظيفة بالضرورة، وربما كانت تحمل أمراضا بعينها، لذا تم التنبيه على غسل الآنية التي يأكل منها الإنسان عدة مرات حرصا على صحته”.

وختم بقوله “في حال التأكد من صحة الحيوان المصاحب للأسرة، سواء كان كلبا أو غير ذلك، فلا شك أن الأمر لا يستدعي غسل الإناء سبعة مرات، وبهذا الفهم يوائم بعض العامة من مُحبي تربية الكلاب بين ما يحبونه، وبين الحديث المنسوب للنبي (صلى الله عليه وسلم)”.

منافع جمّة

فيما أشار حافظ عبدالحميد، نائب رئيس جمعية ملجأ الحيوانات بالجيزة المجاورة للقاهرة، إلى أن نظافة الكلاب من عدمها أمر ممكن، ويعتمد بالأساس على وعي أصحابها، فهم الأقدر على تحقيق أفضل مستوى من النظافة، ما يتسق مع عدم وجود أي أضرار صحية حال تربيتها.

وقال عبدالحميد في تصريح لـ”العرب”، “لا يوجد نص ديني يقول بنجاسة الكلب، إنما هو استنباط من البعض مبنيّ على سوء فهم للأمر بتنظيف أماكن الطعام والشراب من آثار الكلاب غير النظيفة”.

ولفت إلى وجود حملات توعية تطلقها جمعيات حماية الحيوان في العالم عبر مواقع التواصل الاجتماعي لتوضيح أساليب الرعاية الصحية، والتطعيمات التي تحافظ على سلامة الكلاب والإنسان.

وهناك منافع متعددة يمكن جنيها من تربية الكلاب بخلاف الحراسة والصيد يكشفها العلم الحديث رويدا، ففي بدايات القرن العشرين، بدأ استخدام الكلاب في اقتفاء آثار المجرمين من خلال تدريبها على تتبع رائحة بعض الآثار التي يتركها المجرم في موقع الجريمة، وجرى ذلك في أول الأمر في مستعمرات الإمبراطورية البريطانية، حيث أدى تحقيق نتائج مبهرة في مجال العدالة إلى اتساع استخدامها في كافة دول العالم.

واستخدمت الكلاب حديثا في الرياضة، وساهمت في تحفيز الكثير من الأفراد على المشاركة في سباقات وألعاب عديدة، وثمة منافع أخرى، بينها ما توصّل إليه فريق بحثي من جامعة ألبرتا في كندا مؤخرا من خلال دراسة عينات براز لمجموعة من الأطفال، حيث تبيّن أن الأطفال الذين يتعرضون للحيوانات الأليفة وهم في أرحام أمهاتهم وفي الفترة الأولى بعد ولادتهم وحتى ثلاثة شهور تزيد لديهم البكتيريا المعروفة بـ”رومينوكوكوس” و”أوزيلوسبريا”، وهما اللتان تقللان من حساسية الأطفال وبدانتهم.

ويرى العلماء أن التعرض إلى هذه البكتيريا الموجودة في فراء الكلب وقدميه في بداية العمر، تخلق مناعة مبكرة لدى الأطفال حديثي الولادة. كما أن تربية الكلاب يُمكن أن تكون مفيدة للإنسان في مجالات أخرى، مثل التعليم، والتدريب، واقتفاء الأثر، وغرس المسؤولية لدى الأبناء الصغار ودفعهم إلى اعتياد التراحم.

وأكدت الروائية المصرية ريم أبوعيد، وهي من نصيرات الدفاع عن حقوق الكلاب لـ”العرب”، أن تربية الكلاب وغيرها من الحيوانات الأليفة تساهم في ترقيق النفس، وبث قيم الرحمة والرفق والتسامح، خاصة في نفوس الصغار، الذين يعرفون أن هناك كائنات أخرى خلقها الله، ولم يأمرنا بقتلها أو التسبب في أذى لها لأنها غير متوحشة.

ويمكن أن تقوم الحيوانات الأليفة مثل الكلاب بالترويح عن الأشخاص الذي فرضت عليهم العزلة وفقدوا أحبّاءهم، إما بالموت وإما بزواج الأبناء، وصاروا في حاجة ماسة لصحبة طيبة ووفية.

وتتسق هذه النظرية مع استطلاع رأي أجري مؤخرا في بريطانيا، أشار إلى أن 9 في المئة من مالكي الحيوانات يحبونها أكثر من أبنائهم الغائبين عنهم، وأن 24 في المئة منهم يعتبرونها أقرب إليهم من أصدقائهم، بل إن 90 في المئة يعتبرون تلك الحيوانات بمثابة أفراد من العائلة.

وأضافت أبوعيد، “مثل هذه المشاعر لا يعرفها السلفيون ولا يتفهمونها ولا يكترثون بها، ما يجعلهم أقرب لرفض تربية أي حيوانات أليفة من البداية، فالعداء لديهم لا يقتصر على الكلاب، وإنما يمتد إلى كافة الحيوانات”.

واعتبرت أن الأمر بسيط جدا لدى التيار السلفي، وهو الارتكان على أي نص مدسوس ضمن المرويات لاستخراج حكم تحريمي لأي موضوع يرفضونه أو لا يتفهمونه.

وشددت أبوعيد على أن الإسلام والأديان السماوية جميعها تدعو إلى الرحمة والرفق بالحيوان وتخفيف آلامها وأوجاعها، وهو ما يُمكن أن يتحقق في تربية كلاب وقطط وحيوانات أليفة، وهناك في السنة نفسها مرويات عديدة تصُب في دعم هذه الفكرة بشكل واضح.

العرب