يحيي لبنان الثلاثاء المئوية الأولى لتأسيسه بينما يلملم جراحه منذ انفجار مرفأ العاصمة بيروت المروّع ويرزح مواطنوه تحت ثقل أزمة اقتصادية غير مسبوقة ونظام سياسي أثبت فشله ومخاوف على وجود الوطن الصغير المتعدّد الطوائف.
ويأتي هذه الحدث “التاريخي” في ظل أزمة وجودية للبنان الكبير، الذي غرق منذ تأسيسه قبل عشرة عقود، في مستنقع من المشاكل لم يتمكن من الخروج منه حتى اللحظة.
ولئن كانت الحروب الداخلية، التي مزقت النسيج الاجتماعي للسكان منذ الانتداب الفرنسي، وسيطرة الجيش السوري على لبنان لسنوات قبل انسحابه منها بعد اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري في 2005، إلا أن القطرة التي أفاضت كأس غضب اللبنانيين هو الفساد المستشري في كافة مفاصل الدولة. وستمر هذه المناسبة وسط أجواء من التشاؤم والاحتقان بين اللبنانيين الذين سئموا تسويفات الطبقة السياسية بإصلاح أوضاعهم على كافة النواحي.
وتغيب الاحتفالات الرسمية بالمناسبة في كامل مدن لبنان، وقد أكد الرئيس ميشال عون الأحد الماضي أنه تم إلغاؤها بعد “سنة من الأزمات غير المسبوقة والكوارث”.
غير أن النقطة الأبرز في هذا الحدث هو زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون للبلاد وذلك للمرة الثانية في غضون ثلاثة أسابيع إثر وقوفه على دمار العاصمة مطلع الشهر الماضي.
واستذكارا لإعلان المندوب السامي للانتداب الفرنسي الجنرال هنري غورو في الأول من سبتمبر 1920 إنشاء دولة لبنان الكبير من قصر الصنوبر، سيزرع ماكرون شجرة أرز في غابة شمال بيروت.
وفي ذلك المبنى التاريخي الذي لا يزال مقرّ إقامة السفير الفرنسي في بيروت، سوف يجمع ماكرون الثلاثاء ممثلي الطبقة السياسية المتمسّكة بامتيازاتها والمتهمة بالفساد، لحثّها مجدداً على إنقاذ البلاد عبر إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية ملحة.
وتقول روز غلام، السيدة التي تصدّرت وسائل الإعلام بعد رفضها مغادرة بيتها المدمّر جزئيا في انفجار المرفأ في الرابع من أغسطس، لوكالة الصحافة الفرنسية إنها “أكبر أزمة يعيشها لبنان. حتى أنها أسوأ من الحرب”.
وتضيف المدرّسة المتقاعدة، التي ولدت خلال الانتداب الفرنسي، باللغة الفرنسية “قادتنا غير واعين وليسوا صادقين. كيف بإمكانهم أن يعيدوا بناء منازلنا؟ يجب تغييرهم جميعاً”.
ويشكّل انفجار المرفأ الذي أوقع 188 قتيلاً على الأقل وأكثر من 6500 مصاب، عدا عن تضرر أحياء عدة في العاصمة، نقطة تحوّل بالنسبة إلى العديد من اللبنانيين الناقمين على الطبقة السياسية والذين يطالبون برحيلها منذ أكتوبر الماضي.
وعزت السلطات الانفجار إلى حريق وسط كميات كبيرة من نترات الأمونيوم كانت مخزّنة منذ أكثر من ست سنوات في المرفأ، بعلم مسؤولين على مستويات عدةّ، ما وضعهم في دائرة الاتهام من لبنانيين مصرّين على محاسبتهم على الإهمال والفساد.
نقطة الانهيار
عرفات يتفقد الأضرار في بيروت الغربية
عرفات يتفقد الأضرار في بيروت الغربية
جراء الانقسامات السياسية وطبيعة النظام القائم على المحاصصة ومنطق التسويات، لم تتمكّن السلطات المتعاقبة من بناء دولة القانون والمؤسسات الفعليّة. ويقول أستاذ العلوم السياسية والقانون الدولي كريم المفتي إن النظام السياسي وصل اليوم إلى نهايته ويردّد الجميع إنه لا يمكن الاستمرار على هذا النحو، بما في ذلك اللاعبون الفاعلون سياسياً، لكنهم محاصرون، إذ يعمل النظام كمصيدة فئران علق فيها الجميع.
وإذا كانت البلاد عرفت عصرها الذهبي خلال ستينات القرن الماضي، إلا أنّ تاريخ هذا البلد الصغير عبارة عن أزمات متلاحقة تفصل بينها حروب أهلية وتوترات طائفية.
وجاء الانهيار الاقتصادي الأخير ليشكّل أسوأ الأزمات، فهدد وجود الطبقة الوسطى وبات أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر، وفق ما تشير إليه الأمم المتحدة، التي حذرت من كارثة إنسانية أكبر مما يتوقعه المحللون.
أبرز المحطات التاريخية
1920 قيام دولة لبنان الكبير
1943 نال لبنان استقلاله
1947 أول انتخابات تشريعية في لبنان
1958 حرب أهلية استمرت 5 أشهر
[ 1967 نكسة الحرب العربية ضد إسرائيل
1968 الفلسطينيون ينشئون أولى قواعدهم جنوب لبنان
1969 وقع لبنان اتفاق القاهرة
1970 انتقال منظمة التحرير الفلسطينية إلى لبنان [ 1973 توتر العلاقة بين اللبنانيين والفلسطينيين
1975 اندلاع الحرب الأهلية
1976 دخول القوات السورية
1982 إسرائيل تجتاح لبنان
1989 توقيع اتفاق الطائف لاقتسام السلطة
1990 انتهاء الحرب الأهلية
2005 و2007 سلسلة اغتيالات لشخصيات لبنانية
2013 حزب الله يشارك في النزاع السوري
2019 انفجار مظاهرات شعبية ضد الطبقة السياسية
2020 كارثة مرفأ بيروت
ويعتبر المفتي الذي يستبعد احتمال نشوب حرب أهلية، كالتي شهدها البلد في الفترة بين 1975 و1990، لكنه يخشى من أن “تفكّك بناه التحتية”، مما يعطي دليلا على أنه “تم بلوغ نقطة الانهيار”.
وفي أساس الانهيار هذا النظام السياسي التشاركي القائم على توزيع السلطة بين الطوائف، وهي صيغة متوارثة من الحقبة العثمانية. ونصّ اتفاق الطائف الذي تمّ التوصل إليه في عام 1989 ووضع حدّا لاحقا للحرب الأهلية، على إلغاء الطائفية السياسية، لكن كثيرا من التسويات التي تضمنها، بالإضافة إلى الممارسة الفعلية، رسخّت نفوذ الزعماء الطائفيين.
وكان الميثاق الوطني الذي اعتمد مع استقلال لبنان في عام 1943، نص على أن يكون رئيس الجمهورية مسيحيا مارونيا، ورئيس الحكومة مسلما سنيا، ورئيس البرلمان مسلما شيعيا.
غير أن تنفيذ اتفاق الطائف الذي نصّ على المناصفة في المجلس النيابي بين المسيحيين والمسلمين، عمّق نظام توزيع المناصب على الطوائف وأصبح يشمل كافة الوظائف في الدولة.
وأدت الصيغة التوافقية إلى شلل أجهزة الدولة بالكامل إذ لم يعد ممكناً تعيين أي موظف في منصب عال أو اتخاذ أي قرار لا يحظى بموافقة ممثلي المكونات الطائفية الرئيسية.
وعلى غرار تحذير وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان الأسبوع الماضي، يرى المفتي أن “لبنان مهدد بالاختفاء” بسبب تلك الوضعية. ولطالما شكّل البلد الصغير صندوق بريد خلال الصراعات الإقليمية، وآخرها المواجهات بين إيران الداعمة الرئيسية لحزب الله، والولايات المتحدة وإسرائيل.
ذكريات بلا ذاكرة
تقول الباحثة والمؤرخة ديما دو كليرك لوكالة الصحافة الفرنسية إنه لطالما كانت التدخلات الأجنبية موجودة وتعزّزت ثقافة المحسوبيات. وتضيف الباحثة اللبنانية في معرض تفسيرها لذلك بالقول “لسنا شعباً موحّداً وغالباً ما احتجنا إلى عراب خارجي لقتال العدو في الداخل”.
وتؤكد أن التاريخ يظهر “غياب ذاكرة جماعية وطنية لصالح ذكريات تحملها مختلف المجموعات الطائفية”، وهو ما يفسّر “عدم وجود كتاب تاريخ موحّد”، فيما لكل مجموعة روايتها الخاصة عن الأحداث المفصلية الكبرى في تاريخ البلاد المعاصر.
وبدأ في أكتوبر الماضي أن التظاهرات التي شارك فيها مئات الآلاف من اللبنانيين ضد الطبقة السياسية مجتمعة، تشكّل نقطة بداية جديدة بالنسبة إلى شريحة واسعة من اللبنانيين. وقد غذّت شعوراً وطنياً عاماً عابراً للطوائف والمناطق.
ويرى المفتي أنّ ما يجب إرساؤه اليوم هو عقد اجتماعي جديد، لكن أحداً لا يملك مفاتيحه، لا القوى السياسية ولا مختلف مجموعات المعارضة ولا حتى المجتمع الدولي.
وكتبت رئيسة التحرير المشاركة في صحيفة لوريان لوجور الناطقة بالفرنسية إيميلي سويور تقول “بقيت بضع دقائق قبل منتصف ليل نهاية لبنان، لكن منتصف الليل لم يحن بعد”.
صحيفة العرب