ربما اتفق كثير من المراقبين على أن الفارق بدا جلياً بين زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأولى إلى بيروت وزيارته الثانية خلال أقل من شهر، وهو فارق يتجلى في المستوى الشعبي أولاً، لأن ماكرون خلال الزيارة الأولى حظي باستقبال حافل وكان محط آمال اللبنانيين اليائسين من حكامهم وأنظمتهم السياسية والاقتصادية والطائفية، وقطع على نفسه وبلده وعوداً بتحمّل المسؤولية إزاء التأخر في الإصلاح وعدم الالتفات إلى إرادة الشعب.
لكنه في الزيارة الثانية ظهر بمظهر المشارك في تكريس النظام القديم ذاته ولكن من زاوية تغييرات تجميلية وإصلاحية سطحية لا تمس البنية والجوهر، لعل أبرزها ما تردد أن قصر الإليزيه كان المحرك الأساس وراء نبش شخصية السفير اللبناني في ألمانيا مصطفى أديب، وعرضه على الرئاسات والزعامات والكتل اللبنانية، والضغط من أجل تكليفه برئاسة الحكومة، وهذا ما حدث بالفعل.
وكان الاختيار مصدر دهشة لدى غالبية اللبنانيين، خاصة جمهور الانتفاضة الشعبية، بسبب أن أديب ينتمي بالفعل إلى بنية النظام القديم وكان قبل سفارته مديراً لمكتب رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي الذي غادر منصبه محاطاً باتهامات التقصير والمحسوبية والفساد. كذلك كان لافتاً أن أديب حظي بعدد من النواب المؤيدين يفوق ما كان رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب قد حظي به، الأمر الذي عنى أنه مرضي عنه تماماً لدى الكتل السياسية ذاتها التي يرفضها الشارع الشعبي.
صحيح بالطبع أن هؤلاء النواب وليس الرئيس الفرنسي هم الذين استقروا على شخص أديب، ولكن المعطيات التي توفرت سريعاً تشير بوضوح إلى أنه كان مرشح قصر الإليزيه، وأن إجراء المشاورات الملزمة وإتمام التكليف بهذه السرعة القياسية كان يتطابق مع موعد وصول ماكرون إلى بيروت. وهذا الحال يلقي على عاتق الرئاسة الفرنسية مسؤوليات أكبر لجهة الانخراط الفعلي في معالجة أمراض لبنان السياسية والاجتماعية والاقتصادية والصحية المستعصية أصلاً، فضلاً عن الذهاب أبعد في اقتراح شرعة وطنية جديدة ألمح إليها ماكرون منذ زيارته الأولى.
في إطار آخر كانت زيارة الرئيس الفرنسي إلى منزل السيدة فيروز واعتباره المحطة الأولى في برنامجه، ثم حرصه في الصباح التالي على غرس أرزة في محمية جاج، قبل عقد أي اجتماعات رسمية أو لقاءات مع القوى السياسية والكتل النيابية، بمثابة إيحاء بترجيح كفة المجتمع المدني اللبناني والقيمة الثقافية للبلد. ورغم أهمية الإشارتين، وسواهما من أنشطة رمزية، فإن المطلوب الملحّ يتجاوز الرموز إلى الأفعال، في ضوء واقع لبناني بالغ التعقيد والتشابك باعتراف ماكرون نفسه.
ولم يكن غريباً أن المتظاهرين اللبنانيين الذين تجمهروا أمام منزل السيدة فيروز هتفوا ضد تكليف أديب، وكانوا في الواقع يخاطبون ماكرون بالذات وليس أيا من النواب اللبنانيين الذين كانوا قد تقاطروا على القصر الرئاسي لتسمية رئيس الحكومة المكلف رغم أن غالبيتهم لم تكن قد سمعت باسمه من قبل. وما دامت الرئاسة الفرنسية قد قررت مساندة لبنان الشعب وليس الحكم أو النظام السياسي، واختارت يوماً رمزياً بدوره هو إعلان دولة لبنان الكبير في الأول من أيلول/ سبتمبر 1920 على يد الجنرال الفرنسي غورو، فالأحرى أن يقترب الرمز من الواقع وتقترن الأقوال بالأفعال، بمعدلات صادقة وفعالة وليست تخديرية وتجميلية.
القدس العربي