الصين والعلاقة مع الغرب: عِش بسلام مع التنين ولا تعاده

الصين والعلاقة مع الغرب: عِش بسلام مع التنين ولا تعاده

لم تتوقف الصين، أكبر دولة من حيث عدد السكان في العالم والتي يقطنها نحو 1.400 مليار نسمة، عن تخطي كل الحدود من أجل فرض هيمنتها الاقتصادية والتجارية وبسط نفوذها في كل أرجاء المعمورة، لأجل غاية واحدة تحقيق “الحلم الصيني”. ولم يكتف الصينيون في غزوهم بالإغراء الاقتصادي فقط بل تجاوز ذلك إلى التواصل الثقافي والحشد التدريجي للقوات العسكرية لتعزيز مكانة بكين حول العالم، فماذا فعلت الصين لتحقيق هذه الغاية؟

كين موريتسوغو

بكين – في الثاني من سبتمبر العام 1945 استسلمت اليابان في الحرب العالمية الثانية، وهي التي تحدت الغرب في محاولة بقيادة الجيش لتصبح قوة إمبريالية ثم كقوة صناعية. الآن حان دور الصين، أكبر دولة في العالم من حيث الكثافة السكانية، لتحتل المسرح العالمي وبسط نفوذها في كل مكان.

تصارع الصين، كما فعلت اليابان ذات يوم، القوى الغربية التي ترى في قدراتها الاقتصادية والعسكرية المتنامية تهديدا لها، حيث تشعر الدولة الآسيوية الكبيرة، بأنّ الغرب يحاول الحد من صعودها، مما تسبب في تأجيج المشاعر القومية بين جماهيرها وقادتها على حد سواء.

وتتشابه الأهداف الصينية مع ما رسمه القادة اليابانيون قبل خمسة وسبعين عاماً، إذ تريد تأكيد سيطرتها في محيطها المباشر مع تأمين موارد نموّها الاقتصادي، ولكن وسائلها مختلفة عن اليابان.

وما تغير في المشهد العالمي في مرحلة ما بعد الاستعمار، بدوله المسلحة نوويًا ومؤسساته العالمية، هو الاعتماد الاقتصادي المتبادل الأكثر عمقًا، لذلك فقد اعتمدت الصين، بدلا من فرض سيطرتها مباشرة من خلال الغزو المسلح، على الإغراء الاقتصادي والتواصل الثقافي والحشد التدريجي لقواتها العسكرية لتعزيز مكانتها.

وتقول جينيفر ليند، الخبيرة في شؤون آسيا بجامعة دارتموث لوكالة أسوشيتد برس، إن “الوسائل التي تزيد الصين من خلالها قوتها مختلفة، كذلك هو حال الوسائل التي يمكن أن تعتمدها الدول الأخرى في مقاومتها”.

وتراقب بقية دول آسيا بمزيج من الانتهازية والخوف هذا الوضع. وتحرص على الاستفادة من تجارة الصين واستثماراتها، وتحذر كذلك من حجمها وقوتها ومطالباتها الإقليمية مترامية الأطراف. وتبقى الصين أكبر من اليابان، بعدد سكان يبلغ عشرة أضعاف، ومن المحتمل أن تكون أكثر قدرة على التعامل مع قوة عظمى أكبر.

وتركز مبادرة الحزام والطريق الصينية على بناء الموانئ والسكك الحديدية والبنى التحتية عبر آسيا وأفريقيا وأماكن أخرى من العالم المتنامي، لكن وجود بكين المتنامي في بحر الصين الجنوبي لا يلاقي ترحيبا، حيث تطارد قوارب الصيد التابعة لجيرانها في جنوب شرق آسيا، وتبني جزرا اصطناعية للاستفادة من مطالبها الإقليمية.

وينصح الاقتصادي الماليزي المخضرم رامون نافاراتنام بالعمل مع الصين وليس ضدها، فهو الذي عاش تجربة احتلال اليابان لبلاده في الحرب العالمية الثانية. ويقول في هذا السياق “يجب أن نكون قادرين على كسب صداقة الصين. بعبارة أخرى، عِش بسلام مع التنين، ولا تعاده”.

وفي عصر مختلف، عندما لم تكن الشمس تغرب على الإمبراطورية البريطانية، سعت اليابان الصاعدة للانضمام إلى عصبة القوى الاستعمارية الأوروبية من خلال غزو الصين واحتلالها بوحشية مع العديد من دول جنوب شرق آسيا الأخرى.

وقبل خمسة وسبعين عاما استسلمت اليابان رسميًا للحلفاء بفضل السفينة الحربية الأميركية “يو.إس.إس.ميسوري” في خليج طوكيو. وضع هذا الأمر نهاية للحرب العالمية الثانية وطموح اليابان في بناء إمبراطوريتها التي انهارت على وقع الدمار الذي ألحقته القنبلتان الذريتان الأميركيتان بمدينتين يابانيتين معلنتان بدء العصر النووي. وقبل أيام، أحيا القادة الصينيون الذكرى السنوية لأولئك الذين حاربوا اليابانيين في حفل مقتضب.

ويحذر رنا ميتر، الباحث في جامعة أكسفورد ومؤلف كتاب عن الغزو الياباني للصين من المقارنات بين الماضي والحاضر، فيقول “انتهى عصر الإمبراطوريات الكلاسيكي. ستكون خلافات الغد حول الاقتصاد والتكنولوجيا، المدنية والعسكرية على حد سواء. إن قراءة التاريخ مفيدة وضرورية ولكنها ليست دليلا للمستقبل”.

وأعادت اليابان بناء نفسها لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، ودخلت في نزاع مع شركاء تجاريين من فرنسا مرورا بالولايات المتحدة. ويلقي الغرب الصناعي اللوم على السيارات والإلكترونيات يابانية الصنع في ارتفاع معدلات البطالة.

وبعد وصول تلك الاحتكاكات إلى ذروتها في ثمانينات القرن الماضي، كانت الصين تجرب استراتيجيات في السوق. وبعد أربعة عقود، لا تزال اليابان غنية، لكنها تعاني من الركود، في حين أصبحت الصين ثاني أكبر اقتصاد وتخوض حربا تجارية مع الولايات المتحدة.

وعلى غرار ما حصل مع اليابان، تُتهم الصين بسرقة التكنولوجيا وعدم الوفاء بالوعود بفتح أسواقها الخاصة في مرحلة تسعى فيها لتصبح منافسا عالميا في عدد من الصناعات من السيارات الكهربائية إلى المعدات الطبية المتقدمة.

ويقول المحلل الفلبيني ريتشارد هيدريان، الذي كتب عن التنافس بين الولايات المتحدة والصين في المحيط الهادئ، إن الحزب الشيوعي الحاكم في الصين يخشى ألا يقبل الغرب نظامه القائم على الحزب الواحد.

ويرى أن ذلك الأمر يولّد “شعورا بأن الغرب سينظر إلى الصين دوما على أنها تمثل تهديدا بغض النظر عما تفعله”، وربما يسعى إلى احتواء صعودها أو تعطيله.

وينظر الغرب بالفعل إلى مبادرة الحزام والطريق، التي وصلت إلى أميركا اللاتينية، على أنها مناورة لزيادة النفوذ الصيني في الخارج أو في بحر الصين الجنوبي أين تقاوم حاملات الطائرات التابعة للبحرية الأميركية الصين، التي تشعر بدورها أنها محاطة بالقواعد العسكرية الأميركية من كوريا الجنوبية إلى غوام.

ويقول مينتارو أوبا، المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأميركية، “في النهاية، يتجسد أهم إرث للحرب في آسيا في بصمة قوة الولايات المتحدة الدائمة” على الصعيدين العسكري والاقتصادي.

وتضغط الولايات المتحدة وبعض شركائها على الشركات لتقليل الاعتماد على الصين. وتضع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب قيودا على شركات التكنولوجيا الصينية، من شركة الاتصالات العملاقة “هواوي” إلى تطبيق “تيك توك” الشهير. وتعتمد على حلفائها لفعل الشيء نفسه.

سيكون القطع مع المصانع الصينية وسوقها الاستهلاكية الضخمة صعبا ومكلفا، حيث تجمّع الصين معظم الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر الشخصية وغيرها من الأجهزة الإلكترونية في العالم لشركة آبل وديل وغيرهما من العلامات التجارية الأخرى. ويحظى سوقها المتنامي بأهمية كبرى لجل شركات صناعة السيارات الأجنبية وغيرها مع بقاء الطلب الأميركي والأوروبي ثابتا.

ويقول المحلل الفلبيني ريتشارد هيدريان إنه “لم تكن هناك أيّ طريقة يمكن أن تضاهي بها اليابان الولايات المتحدة، حتى في المحيط الهادئ. لكن الأمر يختلف بالنسبة إلى الصين بحجمها الذي منحها تكافؤا على نحو لم يكن مُتاحا لطوكيو أبدا”، وربما هذا الأمر هو الذي يجعل الصين منافسا محتملا أكثر قوة في السنوات القادمة، سواء كان ذلك عن طريق الصراع العسكري أو الاقتصادي.

العرب