ليس هناك من جديد في التوتر المتفاقم الذي تعيشه العلاقات التركية-اليونانية. طوال القرن الماضي، وبعد الهزيمة الساحقة التي أوقعتها قوات حرب الاستقلال التركية بقوات الاحتلال اليونانية، لم تعرف علاقات الدولتين الجارتين بعضًا من التهدئة إلا لعقود قليلة. ويمكن القول: إن حلقات التوتر والصدام المتكررة أصبحت السمة السائدة لعلاقات أنقرة وأثينا منذ سبعينات القرن الماضي.
تعود جذور هذا الصدام والتوتر إلى ستة ملفات رئيسة: تخطيط الحدود البحرية في بحرَيْ إيجة والمتوسط، وتسليح الجزر الشرقية في بحر إيجة، وتداخل المجال الجوي، والأقليات وحقوقها في كل من الدولتين، ومسألة قبرص، ورفض اليونان، التي تتمتع بحق الفيتو، التحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي.
عمومًا، وبالرغم من تداخل هذه الملفات، فإن الملف الأكثر تعقيدًا بالتأكيد هو ملف الحدود البحرية في إيجة والمتوسط؛ حيث دفعت الخلافات حول حدود المياه الإقليمية والحدود البحرية الاقتصادية الدولتين إلى شفير الاشتباك المسلح في أكثر من مناسبة في خمسين عامًا الماضية.
خلال الشهور القليلة الماضية، سيما في شرق المتوسط، وصل التدافع بين الدولتين ذروة غير مسبوقة. في 12 أغسطس/ آب 2020، وقع صدام محدود بين سفينتين، تركية ويونانية. وفي الأسبوع الأخير من أغسطس/آب، أجرت اليونان مناورات بحرية-جوية، بمشاركةٍ قبرصية وإيطالية وإماراتية، شهدت في 28 أغسطس/آب مطاردة طائرات مقاتلة تركية لطائرات يونانية، عندما اقتربت الأخيرة من منطقة حظر طيران تركية. وفي اليوم التالي، وما إن اختتمت المناورات اليونانية، حتى أعلنت تركيا عن مناورات بحرية شرق المتوسط تستمر لأسبوعين كاملين.
سبقت هذه الحوادث، ورافقها وتبعها، تصريحات متشددة من مسؤولي الدولتين، أكدت على عزم كل منهما على الدفاع عن مصالحها في شرق المتوسط، وأنذرت بالذهاب إلى أقصى مدى ممكن للحفاظ على هذه المصالح. فما الذي تختلف حوله الدولتان بالتحديد، في بحر إيجة وفي شرق المتوسط؟ وأين تقع جذور هذه الخلافات؟ ولماذا تصاعدت خلال الأسابيع القليلة الماضية لتهدد باشتعال الحرب بين دولتين عضوين في حلف الناتو؟ وإلى أين يمكن أن يذهب هذا التدافع الساخن بين أنقرة وأثينا؟
إيجة والمتوسط: صدام الحدود الغامضة
ليس ثمة حاجز جغرافي بين بحرَيْ إيجة والمتوسط؛ حيث ينفتح الأول من بوابته الجنوبية على الثاني، ليصبحا وكأنهما بحر واحد. ولكن جغرافية إيجة، واتصاله ببحر مرمرة في الشمال بمضيق الدردنيل، صنعت منه شبه بحر مغلق، يعج بمئات الجزر والصخور الناتئة، تطل عليه تركيا واليونان من ساحليه الشرقي والغربي. جغرافية هذا البحر وازدحامه بعديد الجزر، تضعه في خانة خاصة من ملف الخلافات البحرية بين تركيا واليونان. أما في شرق المتوسط، فإن الخلافات تدور حول حدود الجزر اليونانية الرئيسة، ماييس ورودس وكريت، وحول المسألة القبرصية وحقوق دولة شمال قبرص التركية، التي تتحدث أنقرة باسمها.
1. بحر إيجة: مفاوضات متعثرة
يضم بحر إيجة ما يقارب 3000 جزيرة، بأحجام ومساحات متفاوتة، 21 منها تكاد تغلق بوابة إيجة على المتوسط. عدد من هذه الجزر لا يبعد أكثر من أميال قليلة عن ساحل شبه جزيرة الأناضول التركية، بينما تفصله مئات الأميال عن ساحل أرض اليونان الرئيسة. وكانت تركيا أُجبرت على الاعتراف بسيادة اليونان على عدد من هذه الجزر في اتفاقية لوزان، 1923، التي وضعت نهاية للحرب بين تركيا وحلفاء الحرب العالمية الأولى ونهاية لحرب الاستقلال، ومن ثم إعلان الجمهورية التركية. مجموعة أخرى من الجزر، سيما ما تُعرف بمجموعة جزر الديكاكينيز، كانت إيطاليا سيطرت عليها خلال الحرب العثمانية-الإيطالية حول ليبيا في 1911، واعترفت تركيا بهذه السيطرة في لوزان. في نهاية الحرب العالمية الثانية، تنازلت إيطاليا المهزومة لليونان عن هذه الجزر.
شكَّلت خطوط الملاحة التركية مصدرًا للخلاف بين الدولتين من وقت إلى آخر، ولكن اكتشاف اليونان للنفط بجوار جزيرة نازوس (ناسوس، باليونانية)، في 1973، ولد أول أزمة في علاقات الدولتين حول المياه الإقليمية لكل منهما في إيجة. تركيا، التي كانت دائمًا تنظر بقلق لما تعنيه السيادة اليونانية على جزر إيجة الشرقية، طالبت بتحديد عادل للمياه الإقليمية والجرف القاري، يضع في الاعتبار الساحل التركي الطويل على بحر إيجة (2820 كيلومترًا)، كونه أشبه ببحر مغلق، وكون اليونان دولة تتمتع بأرض رئيسة وليست دولة أرخبيل. ولكن اليونان في المقابل تقول: إن المعاهدات تجعل الوضع في إيجة يميل لصالحها، وإن ما هو قانوني يجب ألا يعني المساواة دائمًا. في 1974، وقع الصدام الأول بين الدولتين في إيجة، في وقت كانت علاقاتهما تشهد تدهورًا متفاقمًا بفعل اندلاع الحرب الأهلية في قبرص وتدخل تركيا العسكري في الجزيرة، ومن ثم ولادة دولة شمال قبرص التركية.
ولكن وساطات غربية نزعت فتيل الصدام مؤقتًا، وأطلقت حراكًا دبلوماسيًّا، طويلًا وغير مثمر، لحل الخلافات بينهما. تحركت أثينا نحو محكمة العدل الدولية ومجلس الأمن، في محاولة للحصول على دعم دولي قانوني يُقِرُّ ادعاءها بالسيادة وحدود المياه الإقليمية في إيجة. ولكن قرار مجلس الأمن 395 في 1974 لم يدعم الموقف اليوناني، ودعا أنقرة وأثينا للتفاوض لإيجاد حل لخلافاتهما. وفي سبتمبر/أيلول 1976، أصدرت محكمة العدل الدولية حكمها برفض طلب اليونان إقرار الحماية الواقعية لسيادتها في إيجة، وأكدت على أن البحر منطقة متنازع عليها بين تركيا واليونان. في نوفمبر/تشرين الثاني 1976، وبعد مباحثات شاقة، توصلت الدولتان إلى ما عُرف باتفاقية برن، بسويسرا، التي نصَّت على ضرورة استمرار المفاوضات بينهما، وعلى ألا تقوم أي من الدولتين بأي إجراء في إيجة يُفضي إلى تصعيد الخلافات من جديد.
استمرت المفاوضات بين الدولتين بصورة متقطعة، بدون التوصل إلى تصور متفق عليه لترسيم الحدود. وفي 1981، أوقف رئيس الوزراء اليوناني، باباندريو، المفاوضات من جانب واحد.
كان مؤتمر الأمم المتحدة الثالث حول قانون البحار (UNCLOS III)، انطلق في 1973، ولم يُختتم بالتوصل إلى اتفاق حول قانون البحار الدولي إلا في 1982. فرَّق القانون بين البحار المفتوحة والبحار المغلقة وشبه المغلقة، ولكنه لم يأتِ في عمومه مرضيًا لتركيا، التي رفضت التوقيع عليه (كما أحجمت كل من إسرائيل وسوريا عن التوقيع). أثينا، من جانبها، وبعد إيقاف المفاوضات مع أنقرة، سارعت إلى إقرار القانون في البرلمان اليوناني، الذي أعلن، وأيضًا من جانب واحد، أن المياه الإقليمية لليونان تبلغ 12 ميلًا بحريًّا، وتُحسب من سواحل الجزر وليس من ساحل أرض اليونان الرئيسة.
ولَّد الموقف اليوناني سلسلة من الصدامات مع تركيا في بحر إيجة، بداية من 1974، 1976، 1987؛ وبصورة بالغة الخطر في 1996، استدعت تدخلًا مباشرًا من الرئيس، كلينتون، لتجنب اشتعال الحرب بين عضوي الناتو. وفي يوليو/تموز 1997، وعلى هامش اجتماع دول الناتو بإسبانيا، أصدرت الدولتان إعلان مدريد، الذي أكَّد على تعهدهما بالتزام الخيار التفاوضي لحل الخلافات في بينهما في بحر إيجة. ولكن، وحتى بعد مرور ما يقارب ربع القرن على إعلان مدريد، لم يكن ثمة مسار تفاوضي منتظم أقرَّته الدولتان، وليس ثمة مؤشر على توافر حل لمعضلة رسم الحدود البحرية في إيجة.
2. شرق المتوسط: حدود متضاربة
لم يتراجع الاهتمام ببحر إيجة ولا تراجعت الخلافات التركية-اليونانية حوله، ولكن اهتمام الدولتين أخذ بالتزايد بشرق المتوسط منذ العقد الأول لهذا القرن. كما أن تركيا لم تبدأ تنقيبًا عن الغاز أو النفط في بحر إيجة حتى الآن، وإن كانت أعلنت عن عزمها ذلك في المستقبل القريب. وكانت هيئة المسح الجيولوجي الأميركية أول من أشار إلى وجود مخزون هائل من النفط والغاز في شرق المتوسط؛ وهو ما دفع كلًّا من إسرائيل وقبرص للتنقيب في المنطقتين اللتين افترضتا أنها تمثل حدودهما الاقتصادية في البحر.
في 2009 و2010، عثرت إسرائيل على حقلي غاز كبيرين، نسبيًّا؛ وفي 2011، أعلنت قبرص اليونانية اكتشاف حقل غاز أفروديت مقابل ساحلها الجنوبي. وفي 2015، اكتشفت مصر حقلًا ضخمًا للغاز مقابل ساحلها على المتوسط.
كانت حكومة نيقوسيا القبرصية اليونانية أول من سارع إلى عقد اتفاقيات مع جوارها المتوسطي لترسيم حدود منطقتها الاقتصادية في البحر، مفترضة أنها تمثل الجزيرة برمتها ومتجاهلة حقوق قبرص التركية. عقدت قبرص اتفاقية ترسيم حدود بحرية مع مصر في 2003، ومع لبنان في 2007، ومع إسرائيل في 2011. رفضت تركيا ادعاء نيقوسيا بتمثيل الجزيرة، وأكدت عزمها حماية حقوق شمال قبرص التركية. كما أكدت تركيا، في اتساق مع موقفها في بحر إيجة، رفضها الاعتراف للجزر اليونانية في المتوسط، مثل: كريت ورودس وماييس، بحق التمتع بحدود اقتصادية مثل تلك التي تتمتع بها أرض الدولة الرئيسة.
في أبريل/نيسان 2012، منحت أنقرة شركة النفط التركية امتياز التنقيب عن مصادر الطاقة في شرق المتوسط، وفي 2015، أضافت الحكومة التركية ثلاث سفن تنقيب أخرى لسفينتي التنقيب العاملتين لديها.
أخذت أنقرة، منذ 2007، في البحث عن شريك يشاطرها المجال البحري لترسيم حدودها الاقتصادية في المتوسط. ويبدو أنها بدأت مفاوضات بالفعل مع ليبيا في عهد معمر القذافي بهذا الشأن، بدون التوصل لاتفاق عندما اندلعت الثورات العربية. وكانت مصر خلال عهد الرئيس، محمد مرسي، الخيار الثاني لأنقرة، ولكن إدارة مرسي لم تستمرَّ طويلًا في الحكم. كما أن علاقات أنقرة مع حكومة الانقلاب المصرية انهارت بصورة كاملة تقريبًا بعد 2013.
وظلَّت الحال كذلك إلى نوفمبر/تشرين الثاني 2019، حين توصلت أنقرة لاتفاقية ترسيم المنطقة البحرية الاقتصادية مع حكومة طرابلس الليبية، التي كشفت عن تصور طموح بالفعل للحدود البحرية الاقتصادية لتركيا، ولجمهورية شمال قبرص. لا يؤسِّس الاتفاق لحدود بحرية اقتصادية منفصلة لجمهورية قبرص التركية وحسب، بل ويضع قطاعًا ملموسًا من المنطقة الفاصلة بين جزيرتي كريت وقبرص ضمن منطقة تركيا الاقتصادية البحرية. إضافة إلى ذلك، يرسم الاتفاق حدودًا طولية شرق المتوسط للمنطقة التركية، تمنع التواصل كلية بين منطقتي إسرائيل وقبرص اليونانية الاقتصاديتين.
وكانت المؤشرات على تصور أنقرة لحدودها الاقتصادية في المتوسط ظهرت بصورة واضحة قبل توقيع الاتفاق مع ليبيا بشهور، عندما اعترضت سفن مسلحة تركية سفينة لشركة إيني الإيطالية، كانت تقوم بالتنقيب عن مصادر الطاقة لصالح جمهورية قبرص اليونانية، في منطقة تعتبرها أنقرة ضمن حدود قبرص التركية الاقتصادية.
بُني الاتفاق التركي-الليبي للحدود البحرية الاقتصادية في المتوسط على تصور لترسيم الحدود من خطوط الطول وليس خطوط العرض؛ وهو التصور الذي اقترحه ضابط بحري تركي شاب في 2009. عندما وُقِّع الاتفاق، كان هذا الضابط، جاهد ياجي، قد أصبح أدميرالًا، ورئيسًا لأركان القوات البحرية التركية.
أثار الاتفاق التركي-الليبي ردود فعل غاضبة من اليونان وقبرص اليونانية ومصر، التي اعتبرت الاتفاق غير قانوني. خلال الأسابيع التالية، تحركت أثينا نحو الجنرال حفتر، آملة أن تؤدي سيطرته على طرابلس إلى إلغاء الاتفاق؛ وطلبت من القاهرة الإسراع في المفاوضات الجارية بينهما منذ سنوات لتوقيع اتفاق ترسيم ثنائي على غرار الاتفاق المصري-القبرصي. كما طالبت أثينا إسرائيل بدعم الموقف اليوناني المناهض للاتفاق التركي-الليبي، بالرغم من أن الاتفاق لم يتجاوز الخط الإسرائيلي للحدود الاقتصادية.
كان الاتفاق التركي-الليبي، باختصار، مناسبة لرسم خارطة تحالفات جديدة في شرق المتوسط، وليس فقط الصراع على الحدود البحرية الاقتصادية.
الجزيرة(الجزيرة)
خارطة التحالفات: تشققات في جبهة أثينا
في 2018، وُلِدت في الجانب اليوناني فكرة مشروع بالغ الطموح لمدِّ أنبوب غاز، يبدأ من الحقول الإسرائيلية البحرية، ليمر بجزيرتي قبرص وكريت، وصولًا لإيطاليا، بهدف ضخِّ الغاز لدول جنوب أوروبا. مصر، التي كانت تأمل هي الأخرى في التحول لمركز إقليمي لتصدير الغاز، والتي تربطها بتركيا علاقات بالغة التوتر، سارعت هي الأخرى للانضمام للمباحثات حول أنبوب الغاز المتوسطي.
المشكلة في مشروع الأنبوب لا تتعلق فقط بالتقديرات حول تكلفته الهائلة، التي لا يعرف أي من أطراف المشروع كيف ومن أين سيتم تمويله، ولكن أيضًا أن السوق الأوروبية لا تحتاج إمدادات غاز منتظمة إضافة للخط التركي، الذي يوشك على الاكتمال ويحمل الغاز الروسي والأذربيجاني. ونظرًا لأن العالم، بما في ذلك أوروبا، يتجه لتعزيز مصادر الطاقة البديلة والدائمة، فليس من المتوقع أن يزداد الطلب الأوروبي على النفط والغاز في المستقبل بصورة تفوق الإمدادات المتوقعة من خط الغاز التركي.
مهما كان الأمر، ولأن علاقات عدائية مع تركيا تجمع الدول المشاركة في المفاوضات حول أنبوب المتوسط، فقد سارعت هذه الدول إلى تشكيل منتدى خاص بها، عُرف باسم منتدى شرق المتوسط. أُعلن عن المنتدى في القاهرة، في يناير/كانون الثاني 2019، وضمَّ كلًّا من مصر، واليونان، وقبرص، وإسرائيل، وإيطاليا، بينما دُعيت إليه الأردن والسلطة الفلسطينية بصفة مراقب. ولكنْ لا تركيا ولا لبنان أو سوريا دُعيت للمشاركة في المنتدى. وبخلاف إيطاليا، التي كان واضحًا ترددها في الاصطفاف مع الآخرين في مشروع معاد لأنقرة، لم يكن خافيًا أن منتدى شرق المتوسط قُصد به تأسيس تحالف مناهض لتركيا، بغضِّ النظر عن جدوى مشروع خط أنابيب الغاز المتوسطي.
وربما كان إطلاق منتدى شرق المتوسط بصورته الإقصائية ما دفع تركيا للإسراع في التحرك نحو توقيع اتفاق ترسيم الحدود مع ليبيا في نهاية العام نفسه.
مهما كان الأمر، فقد نشطت سفن التنقيب التركية، التي رافقتها قطع مسلحة من القوات البحرية، خلال 2019 و2020، للبحث عن مكامن طاقة في المنطقة التي تعتبرها تركيا جزءًا من منطقتها الاقتصادية البحرية، بغضِّ النظر عن الموقف اليوناني. ما اعتبرته أثينا تصعيدًا تركيًّا بالغًا كان بدء التنقيب التركي في المنطقة الفاصلة بين كريت وقبرص في يوليو/تموز 2020. ولأن عمليات التنقيب التركية تتعهدها سفن تركية، ويقوم بها علماء أتراك، فليس لدى اليونان وسيلة للضغط على الجانب التركي. الوسيلة الوحيدة لإيقاف النشاطات التركية كان الصدام المسلح؛ وهو الخيار الذي تعلم أثينا أنها قد تخسره.
ولأن حلفاء اليونان في إسرائيل ومصر لم يُظهروا استعدادًا لخوض مواجهة مسلحة مع تركيا، لجأت أثينا لواشنطن ودول الاتحاد الأوروبي. اتخذت إدارة ترامب موقفًا أقرب إلى الحياد، داعية الطرفين للتفاوض لحل المشاكل العالقة. في أوروبا، وجدت اليونان دعمًا صريحًا من فرنسا؛ أما ألمانيا، صاحبة الثقل الرئيس في الاتحاد الأوروبي، فقد صبَّت جهدها في مسعى للوساطة والعمل على بدء مفاوضات مباشرة بين الدولتين. بعد اتصال من المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، وفي خطوة لإظهار حسن النية والرغبة في نزع فتيل الصدام، أعلنت أنقرة تعليق عمليات التنقيب في المنطقة المتنازع عليها غربي قبرص.
كان المفترض أن تبدأ المفاوضات التركية-اليونانية بالفعل، عندما أعلنت أثينا عن التوصل لاتفاق ترسيم الحدود البحرية الاقتصادية مع مصر؛ وهو ما أثار رد فعل تركي غاضب، وإعلان أنقرة التراجع عن تعليق التنقيب في جوار كريت. هاجمت تركيا الخطوة اليونانية، واعتبرتها غير ذات أثر على الوضع شرق المتوسط، وتعبيرًا عن سوء نوايا اليونان. ولكن اللافت أن المسؤولين الأتراك الذين تناولوا الاتفاق اليوناني-المصري استهدفوا اليونان فقط، وتجاهلوا مصر.
لم تُنشر خارطة رسمية للاتفاق المصري-اليوناني بعد، ولكن يبدو أن المصريين زوَّدوا الأتراك بخارطة الاتفاق حتى قبل أن يُصدِّق البرلمان اليوناني عليه. طبقًا لرسالة مندوب تركيا في الأمم المتحدة، الموجهة للأمين العام، 21 أغسطس/آب، قدَّمت اليونان تنازلًا جوهريًّا عندما قبلت رسم حدودها البحرية الاقتصادية مع الجانب المصري بداية من الساحل اليوناني الرئيس، وليس جزيرة كريت؛ وأن الاتفاق لم يمنح كريت جرفًا قاريًّا ولكن مجرد مياه إقليمية محدودة. بذلك، يقدم الاتفاق اليوناني-المصري دعمًا مباشرًا للموقف التركي في النزاع مع اليونان حول الحدود البحرية الاقتصادية لكل منهما، في المتوسط وفي إيجة، على السواء.
ثمة مؤشرات متزايدة على تهدئة في العلاقات التركية-المصرية، لم تتضح في الاتفاق اليوناني-المصري وحسب، ولكن في ليبيا أيضًا. وقد انعكست هذه التهدئة على ابتعاد مصر عن المشاركة في المناورات اليونانية في المتوسط في الأسبوع الأخير من أغسطس/آب؛ التي عكست إلى حدٍّ كبير تقلص الدول الداعمة لليونان. ابتعدت إسرائيل، أيضًا، عن المشاركة في المناورات اليونانية، ربما لأن الإسرائيليين يدركون قوة الموقف التركي، وأنهم سيضطرون في النهاية للتفاوض مع أنقرة لتأمين ممر عبر المنطقة التركية الاقتصادية.
إضافة إلى اليونان، شارك في هذه المناورات قوات بحرية من كل من قبرص اليونانية، وإيطاليا، وفرنسا، وطائرات إماراتية. وبالرغم من أن الموقف الإيطالي من النزاع التركي-اليوناني لم يزل غامضًا، فإن روما أصرَّت هي الأخرى في الاتفاق الإيطالي-اليوناني لترسيم الحدود في البحر الأيوني، في يونيو/حزيران الماضي، على أن تُحسب المنطقة البحرية الاقتصادية بداية من ساحل الأرض الرئيسة لكل من البلدين وليس من الجزر التابعة لهما.
مشاركة قبرص اليونانية في المناورات هي أمر طبيعي ومتوقع، كونها دولة تحت حماية يونانية فعلية. ولكن مشاركة فرنسا والإمارات هي التطور الأهم. تتواجه الإمارات وتركيا في حرب غير معلنة في ليبيا، وفي الحصار المفروض على قطر، ليس ثمة مقارنة ممكنة بين وزني تركيا والإمارات ومقدَّراتهما، ولكن الواضح منذ اندلاع الثورات العربية أن الحاكم الفعلي للإمارات، محمد بن زايد، يرغب في لعب دور نشط في الخليج والشرق الأوسط، ويعتقد أن علاقاته الأميركية والإسرائيلية كفيلة بتوفير مظلة حماية لأدواره الإقليمية. ولكن قطْع ابن زايد مسافة بعيدة عن بلده للوقوف مع اليونان في مواجهة تركيا لابد أن يُنظر إليه باعتباره خطوة رمزية لمحاولة القول بأن الإمارات قادرة على إحداث فرق في التحالف المناهض للأتراك. بغير ذلك، فمن المستبعد أن تقرر الإمارات خوض حرب فعلية ضد تركيا، سواء في تحالف مع اليونان أو غيرها.
فرنسا هي المعضلة التي يبدو أن من الصعب على الأتراك حلها. فمنذ سنوات، سيما بعد تولي إيمانويل ماكرون الرئاسة، تتخذ باريس مواقف عدائية صريحة ضد أنقرة في سوريا، وليبيا، وإفريقيا الغربية، وأخيرًا في شرق المتوسط. تنظر فرنسا، التي تشهد إحياء إمبرياليًّا لا يخفى، وتعمل على توكيد دورها باعتبارها القوة الأوروبية الرئيسة في حوض المتوسط، بقلق إلى اتساع تحرك تركيا الإقليمي. وكما لم تُخْف باريس دعمها للواء الانقلابي، حفتر، في ليبيا، آملة بأن يفضي انتصاره إلى تعزيز النفوذ الفرنسي في ليبيا والمتوسط، تحركت بصورة تصادمية لدعم الموقف اليوناني ومحاولة إقناع تركيا بأن ميزان القوى لا يصب لصالحها وأن عليها الانصياع للمطالب اليونانية باعتبارها مطالب أوروبية. وكان المدهش أن يتحدث الرئيس الفرنسي، في تعليقه على مشاركة بلاده في المناورات اليونانية، بلغة “رَسْم خط أحمر لتركيا”.
ردَّ المسؤولون الأتراك على ماكرون بشيء من الاستخفاف والسخرية؛ أما الرئيس التركي فكان واضحًا في توكيده على أن بلاده لن تقبل بسيفر جديدة في شرق المتوسط، بمعنى أن أية مفاوضات حول الوضع في المتوسط لابد أن تكون ثنائية، وأن تقتصر على تركيا واليونان، وأن أنقرة لن تقبل دورًا فرنسيًّا، أو ألمانيًّا، أو أوروبيًّا، أكثر من الوساطة. الأوروبيون، يقول الأتراك، ليسوا شركاء في شرق المتوسط.
من جهة أخرى، اتخذت روسيا، التي تنظر بقلق إلى تصاعد الدور التركي في شرق المتوسط وتربطها باليونان الرابطة الأرثوذكسية، موقفًا غير منحاز لأي من الجانبين، حتى الآن على الأقل. والواضح أن روسيا تأمل، بصبر طويل، أن تنتهي تركيا إلى الخروج من الناتو. وكذلك التزمت بريطانيا، التي ترى في تركيا شريكًا اقتصاديًّا رئيسًا بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، موقفًا حياديًّا من الأزمة.
ردَّت تركيا على خطوة المناورات اليونانية ذاتها بالإعلان عن إجراء مناورات بحرية في شرق المتوسط لأسبوعين كاملين. وفي نهاية أغسطس/آب، عندما نُشرت تقارير يونانية حول قيام أثينا بتسليح جزيرة ماييس (كاستيلوزيريو لدى اليونان)، في انتهاك صريح لمعاهدة باريس للسلام في 1947، (التي نقلت السيادة على مجموعة جزر ديكاكينيز من إيطاليا لليونان، وجعلت الجزر منزوعة السلاح)، جاء الرد التركي بالتمديد لعمل سفينة التنقيب، عروج رئيس، في شرق المتوسط والإعلان عن حظر طيران جوي في منطقة عمل السفينة.
خيارات المواجهة والتفاوض
ليس ثمة خلاف في العالم بين تصوري دولتين لحدودهما البحرية الاقتصادية مثل الخلاف التركي-اليوناني؛ ليس فقط لأن هذا الخلاف يشمل بحري إيجة والمتوسط، وحسب، ولكن أيضًا لأنه يتعلق بثروات هائلة محتملة في البحرين، وبالتفسيرات المتفاوتة للخلفية القانونية التي يستند إليها، من معاهدة لوزان، إلى اتفاقية مونترو 1936، ومعاهدة باريس للسلم في 1947، وصولًا إلى الاتفاقية الأممية لقانون البحار في 1982. ولكن موقف اليونان القانوني يبدو أضعف من الموقف التركي.
ففي أكثر من سابقة، لم تمنح محكمة العدل الدولية لجزر دول ليست من صنف الأرخبيل جرفًا قاريًّا؛ كما أن اتفاقيتي اليونان مع مصر وإيطاليا لترسيم الحدود البحرية استبطنتا تنازلًا يونانيًّا عن ادعاء وجود جرف قاري للجزر، بما في ذلك جزيرة كريت، خامس أكبر جزر المتوسط. فوق ذلك كله، يبدو من غير المنطقي ولا المعقول ادعاء جرف قاري لجزيرة مثل ماييس، تبعد كيلومترات قليلة عن ساحل شبه جزيرة الأناضول، بينما يفصلها عن الساحل اليوناني أكثر من 500 كيلومتر.
بيد أن هذا الخلاف في النهاية لن يُحَلَّ، على الأرجح، بقوة القانون والمنطق، بل بثقل اعتبارات ميزان القوى. تركيا واليونان، بالطبع، عضوان في الناتو، ويُفترض ألا ينظرا إلى بعضهما البعض من زاوية ميزان القوى، ولكن الموروث التاريخي لعلاقات الدولتين الجارتين لا يساعد كثيرًا في إشاعة مناخ من الصداقة والتعاون؛ وطوال القرن الماضي، لعبت المخاوف المتبادلة دورًا كبيرًا في تأسيس استراتيجية الدفاع للدولتين.
تركيا اليوم تتفوق على اليونان بكل المقاييس، اقتصاديًّا، وبشريًّا، وجيشًا وبحرية، وتسلحًا. وبعد أن اكتشفت تركيا حقلًا متوسط الحجم للغاز في منطقتها الاقتصادية في البحر الأسود، يقدر احتياطيُّه على سدِّ حاجة تركيا من الغاز لأكثر من ست سنوات، يمكن لأنقرة أن تستمر في فرض أمر واقع يستند إلى تصورها لحدودها البحري، واتباع سياسة النَّفَس الطويل، إلى أن تقتنع أثينا بالذهاب إلى قاعة التفاوض بدون شروط مسبقة.
اليونان، التي تدرك حقيقة ميزان القوى، تسعى إلى تحالفات أوسع لمواجهة الأمر الواقع التركي. ولكن الواضح أن عدد حلفاء اليونان في تناقص وليس في ازدياد. لا مصر ولا إسرائيل ترغبان في مواجهة تركيا أو في تصعيد مستوى التوتر معها، ليس لأن نظرة أيهما لأنقرة تغيرت، بل لحسابات براغماتية بحتة. كما يوجد شك كبير، بالرغم من اللغة بالغة الاستفزاز التي تستخدمها باريس، في أن فرنسا يمكن أن تخوض مواجهة مباشرة مع تركيا، سيما أن مؤسسة دولية واحدة لا يمكن أن تجد مسوغًا واحدًا لمحاولة فرنسا صناعة دور وموقع لها في شرق المتوسط.
ما يتبقى في جعبة أثينا، إن استمرَّ مستوى الاهتمام الأميركي المنخفض بأزمة العلاقات التركية-اليونانية، هو استدعاء الاتحاد الأوروبي ومحاولة إقناع الشركاء الأوروبيين بفرض عقوبات على تركيا. بيد أن من الصعب إيجاد إجماع أوروبي على قرار بفرض عقوباتٍ ما على تركيا، أولًا: لأن لتركيا أصدقاء بين دول الاتحاد لا يرون مسوغًا عادلًا للمطلب اليوناني، وثانيًا: لأن لدى تركيا أوراقًا يمكن استخدامها في الرد على أية خطوة أوروبية عدائية. وحتى إن نجحت أثينا في حشد التأييد الأوروبي لعقوبات على تركيا، فليس ثمة ما يشير إلى أن هذه العقوبات يمكن أن تُحدث تغييرًا في الموقف التركي.
المخرج الأمثل، والأسلم للطرفين، من الأزمة المركبة في شرق المتوسط وإيجة هو بالتأكيد التفاوض. المشكلة أن ليس ثمة ميكانيزم لإطلاق مفاوضات تركية-يونانية، بعد أن تخلَّت أثينا عن مسار اتفاقية برن التفاوضي. ولذا، ستحتاج ألمانيا، المستمرة في جهدها لإحضار الدولتين إلى طاولة المفاوضات، إلى ابتكار هذا الميكانيزم، والحفاظ، من ثمَّة، على المسار التفاوضي حتى إن لم يأتِ بنتائج سريعة.
ولكن، وحتى تصل الدولتان إلى قاعة التفاوض، لابد من ملاحظة أن مستوى المواجهة بينهما وصل حدًّا غير مسبوق، وأنه حتى إن لم يكن لدى أنقرة أو أثينا نوايا لإشعال حرب، فإن مجرد وقوع خطأ غير مقصود يمكن أن يؤدي فعلًا لمواجهة مسلحة، قد تصبح باهظة التكاليف للدولتين ولأمن المتوسط ككل. مثل هذه المواجهة، على أية حال، يمكن أن ينجم عنها خارطة قوة جديدة في شرق المتوسط.
مركز الجزيرة للدراسات