إشكاليات سياسية وأيديولوجية تعوق فصل الدين عن الدولة السودانية

إشكاليات سياسية وأيديولوجية تعوق فصل الدين عن الدولة السودانية

الحركة الشعبية قطاع الشمال حققت إنجازا مهما بتوقيعها لإعلان مبادئ مع الحكومة الانتقالية السودانية يقر بضرورة فصل الدين عن الدولة، وهو مطلب لطالما نادت به الحركة المسلحة، وكان أحد الأسباب في فشل المفاوضات السابقة معها، ويرى مراقبون أن عملية الفصل نظريا تبدو هينة لكن عمليا صعبة في ظل اعتراضات الإسلاميين وتحفظات جزء من العسكريين، وانقسامات في صفوف الظهير المدني للحكومة.

احتلت قضية فصل الدين عن الدولة مساحة كبيرة من النقاشات على مدار عقود طويلة، ففي دولة مثل السودان، تتكون من أعراق وطوائف وديانات مختلفة من الطبيعي أن تظل مطروحة، قد تفتر مع تطورات وتزداد سخونة مع أخرى، لأنها واحدة من المفاصل الإشكالية التي تصعد وتهبط، ولا يطويها النسيان.

تجددت القضية خلال الأيام الماضية، وعادت إلى الواجهة عقب اتفاق رئيس الحكومة عبدالله حمدوك مع رئيس الحركة الشعبية شمال عبدالعزيز الحلو الجمعة، على مبدأ فصل الدين عن الدولة، خلال اجتماعات جرت بينهما في أديس أبابا، بدأت سرية ثم تم الإعلان عنها، لأن الغاطس فيها تصعب مداراته، فهو جزء من تكوين وأفكار الحلو نفسه، وليحظى بمشروعية من الضروري أن يأخذ صفة العلنية.

تحايل الطرفان على الصيغة السياسية التي خرج بها الاتفاق المبدئي، “لا يجوز للدولة تعيين دين رسمي”، ورحلت تفاصيل المكونات إلى حين وضع دستور، لكن الثابت هو الاتفاق الصريح على فصل الدين عن الدولة.

يعد هذا البند أحد ثوابت الحركة الشعبية التي يقودها الحلو، وبسببه لم يتمكن الرجل من التفاهم مع حكومات سابقة، وكان من بين أسباب احتفاظه بمسافة عن بقية الحركات المسلحة، ودخوله في خلاف حاد مع وفود السلطة الانتقالية خوفا من الأسلمة الضمنية.

يعلم الحلو أن مطلبه ليس هيّنا بالمرة، وبحاجة إلى جرأة، وشخصية مدنية على قمة السلطة تستطيع أن تستوعب رؤيته الدقيقة، ولذلك لم يكن مرتاحا لرئاسة الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) لوفد التفاوض الرسمي في جوبا، ونجح في عقد اتفاق مبدئي مع حمدوك بعد أيام قليلة من اتفاق الخرطوم على السلام مع الجبهة الثورية، كممثلة لتنظيمات سياسية وحركات مسلحة، رفض الحلو أن يكون جزءا رسميا فيها.

يمثل فصل الدين عن الدولة واحدة من القضايا المثيرة للجدل، تخشى الكثير من القوى السودانية الاقتراب منها، وتتحاشى ارتداداتها السياسية، بعد أن صارت من “التابوهات” أو المحرمات، لأن فترة حكم الرئيس السابق عمر حسن البشير عمقّت وجود الحركة الإسلامية في مفاصل السلطة، واستطاعت أن تكسب أرضية واسعة وسط المجتمع.

كما أن بعض الأحزاب التاريخية، مثل حزب الأمة والحزب الاتحادي، وغالبية الفروع والانشقاقات التي خرجت من رحم كليهما، تحتفظ بولاء إيجابي للشريعة، وللجميع مواقف سلبية من مناقشة فكرة الفصل بين الدين والدولة، ويسيرون على درب عدم الاقتراب منها، وعدم الدخول في حوارات مجتمعية لا طائل منها.

لم تستطع القوى العلمانية في السودان مناطحة الرافضين للفصل فترات طويلة، وبدا هناك اتفاق رضائي على الابتعاد عن مناقشة هذا الملف، حيث بات كفيلا بنسف أي مفاوضات يطرح على طاولتها، لأن معادلة المتورطين فيها حدية، أو صفرية، فكل طرف لا يقبل المساومة أو تقديم تنازلات، فإما الفصل وإما اللافصل.

وصل نظام البشير إلى درجة التضحية بجنوب السودان والموافقة على سلخه وانفصاله ليظل ما تبقى من البلاد في كنف الحركة الإسلامية، ضمن تقية تؤمن بها قيادات الحركة وروافدها، وتعتمد على قاعدة حكم جزء يمكن أن يقود إلى الكل، من خلال التوسع عندما تستنهض الدولة – الأمة همتها وحميتها، كمبرر لتمرير تنازلات صعبة.

بهذا المنطق البسيط ضاع جزء عزيز من السودان، وتعرضت دول نشط فيها إسلاميون لمخاطر عديدة، حيث يتبنون الخطاب ذاته، فلا عاد الجنوب، ولم يقو مركز السلطة في الخرطوم، بل انهارت ولاحت في الأفق مرات كثيرة عوامل تهدد ما تبقى من الدولة، للحد الذي عرضها للتفتت والانهيار، ولا يزال الشبح قابعا في خلفية المشاهد، كلما طفت على السطح الرغبة في عودة الأسلمة السياسية في السودان.

إذا لم تقم دولة حقيقية تراعي التباين بين المكونات والأقاليم وتفصل بين الدين والدولة، سوف يظل السودان متشرذما، فمن الصعوبة هضمها كل ذلك عنوة تحت شعارات أيديولوجية تحض على التمسك القهري بالدين والدولة، ومع سقوط نظام البشير ظهرت ملامح سودان جديد يمكن أن يصل إلى نسخة توافقية تستوعب جميع الأطياف.

اعتقدت القوى التي لعبت دورا في سقوط البشير أنه حان الوقت لتجد ملاذها في نبذ التعصب الديني، ونصت الوثيقة الدستورية التي تشكلت بموجبها الحكومة والمجلس السيادي في أغسطس من العام الماضي، على أن “السودان جمهورية مستقلة ذات سيادة، مدنية، ديمقراطية، تعددية، لا مركزية، تقوم فيها الحقوق والواجبات على أساس المواطنة دون تمييز بسبب الدين والعرق والنوع والوضع الاجتماعي”.

حاول البعض الالتفاف على فصل الدين عن الدولة، وكانت الخطوة مفهومة، على اعتبار أن الطبقة الحاكمة لا تريد مواجهة سياسية في قضية حساسة كهذه، واكتفت الغالبية بالمشاركة في الثورة وما يجمعها من تفاهمات كخطوة لتجاوز العقبات.

العلمانية في نظر حركة الحلو، والحزب الشيوعي المنضوي ضمن تحالف قوى الحرية والتغيير، ضمانة لبناء دولة المواطنة

استندت الوثيقة في بعض بنودها على الدستور الانتقالي الذي طبق بعد التوقيع على اتفاقية السلام بين شمال وجنوب السودان عام 2005، وتم حذف بند يقول “تكون الشريعة الإسلامية والإجماع مصدرا للتشريعات التي تسن على المستوى القومي وتطبق على ولايات شمال السودان”، الأمر الذي أثار الارتياح لدى الحركات المصممة على الفصل أو الراغبة فيه، ولم يكن مزعجا لتلك التي لا تريده، هي صيغة مطاطة تحتمل تأويلات، قرأها كل طرف بالطريقة التي تريحه. راحت النشوة التي صاحبت ترتيب البيت لانطلاق المرحلة الانتقالية، وجاءت الفكرة مع الدخول في جوهر قضاياها، وفي مقدمتها التوصل إلى سلام شامل خلال الستة أشهر الأولى التي شهدت تعثرا لافتا في كل تفاصيل الملفات تقريبا، وبقي ملف الفصل بين الدين والدولة متذبذبا، لما يمثله من خلاف، وأخفقت محاولات ترحيله، لأن حركة الحلو وضعته كشرط في أجندتها، ما يفسر حرصها على التفاوض بشكل مستقل.

تسبب الملف كثيرا في توتير العلاقات مع الحكومة في الخرطوم، مع أن الحركات الأخرى تفهمت تنحيته، وربما قبل بعضها بالصيغة المؤقتة التي تتضمن رؤية رحبة تستوعب التباينات، وبقيت المشكلة في جانب السلطة، خشية من عواقب الانجرار وراء إلحاح حركة الحلو، ففي النهاية هي سلطة انتقالية، وروجت إلى أنه ليس من حقها مناقشة قضايا مستقبلية من هذا النوع لا يوجد إجماع عليها.

اتهمت قيادات في السلطة، مدنية وعسكرية، بأنها مخترقة من جانب فلول البشير، الأمر الذي يفسر تمنعها عن القبول بفصل الدين عن الدولة، وقيل إن مكوناتها لا تريد أن تمنح الحركة الإسلامية ورقة تمكنها من زيادة السخونة في الشارع، علاوة على تدين قطاع كبير من المواطنين بالفطرة، وسوء السمعة التي تلازم من يتحدثون عن العلمانية، أو التمسك بنظام حكم مدني، والبعد تماما عن أي نظام ثيوقراطي.

هناك من يرون في تجنب الحديث باستفاضة هروبا من الواقع، أو دفنا للرؤوس في الرمال، لأن القضية لن يتم ردمها بسهولة، ويمكن أن تنفجر في أي لحظة، فالحركة الشعبية التي يقودها الحلو، ككيان سياسي وعسكري، يصعب تجاهلها، أو استكمال السلام من دونها، وهي تعتقد أن الفصل بين الدين والدولة في مصلحة السودان كله.

كشفت الثيمة التي اعتمدتها حركة الحلو الغطاء ورفعت المستور عن حركات أخرى حاولت مداراة تعاطفها مع الحركة الإسلامية، مثل حركة العدل والمساواة التي تنشط في دارفور ويقودها جبريل إبراهيم، وهي جزء من كيان الجبهة الثورية، وأكدت تطورات مختلفة أن هناك تيارا في السلطة يريد تجنب القضايا الشائكة.

كشف حديث فصل الدين عن الدولة رغبة حركة وممانعة أخرى عن حسابات متضاربة، مطلوب تسويتها، لتصل النخبة إلى رسم خارطة سياسية للنظام الحاكم في المستقبل، فإذا كانت قوى سياسية عديدة تطالب بمدنية الدولة وتنحية العسكريين والتيار الإسلامي، فمن الأولى أن تقر فصل الدين عن الدولة، وهي إشارة إلى جهات خارجية يساورها شعور بالقلق من حدوث انقلاب يعيد الجيش إلى قلب السلطة، أو ردة حضارية تمكن الإسلاميين من القفز عليها مرة ثانية.

يمكن قطع السبل على هذه الهواجس من خلال تحديد الأطر اللازمة للفصل بين الدين والدولة، لذلك أقدم حمدوك على مجازفة التواصل مع الحلو والتفاهم معه، ورسما معا خطا سياسيا يضمن للأول أهدافه في الوصول بالسودان إلى مربع الدولة المدنية، ويبدد مخاوفه من حدوث انتكاسة تعيد إنتاج أنظمة سابقة وظفت الدين في الحكم وقطّعت أوصال البلاد.

بحث الحلو عن تسوية حقيقية لجذور المشاكل في السودان، ووجد أن مسألة الهوية الإسلامية والعربية التي فرضت قسرا من المخاطر التي تهدد وحدة الدولة، وتمسكت بها حكومات سابقة، وجعلتها تضع قوانين دينية لبسط هيمنتها على السلطة، ولو أغضبت قطاعا من المواطنين يعيشون في الأطراف، ويعانون مشكلات مركبة حولتهم إلى جزء من أقاليم تعد هامشية في الدولة.

أسهمت قوانين الشريعة الإسلامية، المعروفة بـ”قوانين سبتمبر”، ووضعها الرئيس الراحل جعفر نميري بالتعاون مع زعيم الجبهة الإسلامية بالسودان الراحل حسن الترابي عام 1983، في الإعلان عن تمدد نفوذ الأخير، وهي قوانين “سيئة السمعة”، تم تطبيقها بعد الانقلاب الذي قاده البشير، كواجهة للجبهة الإسلامية للإنقاذ في 30 يونيو 1989، ومهدت الطريق لدخول السودان فضاء الأسلمة السياسية.

تشكل العلمانية في نظر حركة الحلو، والحزب الشيوعي الذي يملك حضورا قويا في تحالف قوى الحرية والتغيير، ضمانا رئيسيا لبناء دولة على أساس المواطنة، وتعتمد على الحقوق والواجبات، وإجبار أجهزة الدولة على الوقوف عند مسافة واحدة من جميع الأديان والمناطق، وبالتالي منع تكرار ما حدث مع جنوب السودان من تقرير مصير ثم انفصال.

يحتاج تعميم الفصل بين الدين والدولة، إرادة سياسية عملية، ربما تكون مؤشراتها موجودة عقب زوال نظام البشير، وتطويق الكثير من ذيوله في أجهزة الدولة العميقة، وإعادة اكتشاف جيوب الحركة الإسلامية، وانخفاض تأثير كل هؤلاء في الشارع.

تبقى الإشكاليات الرئيسية في ثلاث نقاط، سوف تمثل منغصا قويا أمام تطبيق مبدأ الفصل بين الدين والدولة، قد تعطل التفاهمات التي توصل لها حمدوك والحلو.

تكمن الأولى في تحالف الحرية والتغيير، الذي يضم قوى مختلفة ليست على وفاق تام حول هذه القضية، ويتردد بعضها في مناقشتها لمنع تفجير التحالف من الداخل، حيث تعتقد أطياف به بجدوى عدم استبعاد القوى الإسلاموية وأهمية الحوار معها.

تخص الثانية المؤسسة العسكرية التي تبدو قيادات نافذة فيها بمثابة الحارس المؤتمن على الشريعة بصورة غير مباشرة، ما حولها إلى حائط صد أمام مناقشة هذه القضية، حيث نجح نظام البشير في إضفاء أسلمة سياسية على شريحة كبيرة فيها.

والمعظلة الثالثة تتجسد في وجود حركات إسلامية متشددة كامنة في دارفور أو غيرها، ربما تجد مبررا في خروجها إذا احتل فصل الدين عن الدولة الواجهة السياسية، وما يترتب على ذلك من توتر يجرف معه ما تحقق من تقدم على مستوى السلام، ويعيد البلاد إلى أجواء التجاذبات والانقسامات بين إسلاميين وغيرهم.

العرب