زيارة روسية من العيار الثقيل إلى سوريا، ولئن ركزت وفق تصريحات المسؤولين من كلا الطرفين على الوضع الاقتصادي وسبل تخفيف وطأة العقوبات الأميركية وإعادة الإعمار، فإن ما خفي منها سياسيا كان أعظم.
دمشق- طغت الجوانب الاقتصادية وسبل مواجهة العقوبات الغربية لاسيما الأميركية على المحادثات التي أجراها الوفد الروسي رفيع المستوى مع المسؤولين السوريين في دمشق، الاثنين، بحسب ما هو معلن.
وتقول دوائر سياسية إن التركيز على الوضع الاقتصادي في مناطق السيطرة الحكومية في سوريا، على أهميته، لا يعني بالمرة أنه تم إغفال الجوانب السياسية خصوصا في علاقة بعمل اللجنة الدستورية وإلا لكان تم حصر زيارة الوفد الروسي في نائب رئيس الوزراء يوري بوريسوف.
وتشير الدوائر إلى أن زيارة لافروف كان هدفها الأساسي الضغط على دمشق بشأن ضرورة إظهار جدية في ما يتعلق بعمل اللجنة الدستورية المكلفة بوضع دستور جديد للبلاد، ونجح على ما يبدو الوزير الروسي في تحقيق هذا الهدف لجهة تأكيد نظيره السوري وليد المعلم على عدم ممانعتهم في ذلك، ولكن الإشكال يبقى عدم رضاء دمشق على مجاراة روسيا لتركيا في شمال غرب سوريا، وأيضا الأكراد في شمال شرق البلاد، والذي من شأنه أن يقود إلى تفتيت البلاد.
وهذا ما يفسر، بحسب تلك الدوائر، تشديد لافروف خلال المؤتمر الصحافي مع المعلم على تمسك بلاده بسيادة سوريا ووحدة أراضيها، في ما بدا محاولة لطمأنة النظام.
ووصل وزير الخارجية الروسي صباح الاثنين إلى دمشق، سبقه بساعات وفد حكومي برئاسة بوريسوف. وهذه أول زيارة للافروف إلى العاصمة السورية منذ العام 2012، حينما كان الملف السوري بعهدته قبل أن ينتقل إلى وزارة الدفاع الروسية.
والتقى لافروف والوفد المرافق له كلّا من الرئيس بشار الأسد ووزير الخارجية وليد المعلم، وسط تساؤلات مراقبين حول الثمن الذي يتعين على النظام السوري دفعه هذه المرة لإنقاذه من مقصلة قيصر بعد أن كان لموسكو الفضل في إنقاذه بالعام 2015 من الانهيار العسكري.
وبحسب الرئاسة السورية، قال الرئيس الأسد خلال اجتماعه بلافروف وبوريسوف إنه يريد زيادة الاستثمارات الروسية لمساعدة بلاده على تحمل العقوبات الجديدة المفروضة على اقتصاد بلاده المتعثر بالفعل، والتي تهدد بتقويض المكاسب العسكرية التي تحققت بمساعدة موسكو.
وجرى، وفق الحساب الرسمي للرئاسة على تطبيق تلغرام، بحث المساعي “للتوصل إلى اتفاقيات جديدة، بما يساهم في تحقيق مصالح البلدين والتخفيف من آثار سياسة العقوبات القسرية التي تنتهجها بعض الدول”.
وأضافت الرئاسة أنه “كان هناك اتفاق على أهمية البدء بتنفيذ الآليات الكفيلة بتجاوز الحصار الاقتصادي والضغوطات على الشعب السوري”، من دون توضيح ما هي الآليات وطريقة تنفيذها.
وتأتي زيارة الوفد الروسي في وقت تشهد فيه سوريا أزمة اقتصادية خانقة تفاقمها العقوبات الاقتصادية وآخرها التي فرضتها واشنطن بموجب قانون قيصر الذي تم تفعيله في يونيو الماضي، وتعد الأكثر قساوة بحق سوريا.
وخلال مؤتمر صحافي مشترك مع لافروف وبوريسوف، قال وزير الخارجية السوري وليد المعلم “أستطيع أن أؤكد… أن مستقبل العلاقات مع الأصدقاء في روسيا واعد ومبشر بالخير في ما يتعلق بالوضع الاقتصادي والسياسي”. وأضاف رداً على سؤال “متفائل، وأبشّر شعبنا بأن الوضع الاقتصادي العام سوف يجد تحسناً خلال الأيام والأشهر المقبلة”.
ووقعت موسكو في السنوات الماضية اتفاقات ثنائية مع دمشق وعقوداً طويلة المدى في مجالات عدة أبرزها الطاقة والبناء والنفط والزراعة. وأقر مجلس الشعب السوري في صيف 2019 عقدا مع شركة روسية لإدارة واستثمار مرفأ طرطوس، الأكبر في البلاد. وسبق أن فازت الشركة ذاتها بعقد لاستثمار واستخراج الفوسفات من مناجم منطقة تدمر (شرق) لخمسين عاماً.
وتحدث بوريسوف خلال المؤتمر عن “اتفاقية جديدة” لتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري تقدمت بها روسيا بانتظار الرد السوري عليها وتوقيعها في زيارة أخرى يقوم بها لدمشق نهاية العام الحالي. وأشار إلى مشاريع إعادة إعمار 40 منشأة بنى تحتية خاصة في مجال الطاقة، وإلى عقد عمل مع شركة روسية لاستخراج النفط من المياه السورية لا يزال ينتظر المصادقة عليه.
وتحدث لافروف بدوره عن “أولويات جديدة” في سوريا في مقدمها “إعادة الإعمار” والحصول على دعم دولي لتحقيق ذلك. ويدرك لافروف أن تحقيق هذا الهدف منوط أساسا باستجابة الأسد للمطالب الدولية وعلى رأسها القانون عدد 2254.
النظام السوري يبدي انفتاحا على صياغة دستور جديد للبلاد، بعد أن كان يرفض بالمطلق هذه الخطوة
وعن اللجنة الدستورية، التي انعقدت جولتها الثالثة الشهر الماضي، قال لافروف إن “ليس هناك جدولا زمنيا” لإنهاء عملها. فيما أوضح المعلم أنه “في ما يتعلق بالدستور القادم، فهذا شأن ما سيتوصل إليه أعضاء اللجنة الدستورية (..) إذا كانوا يريدون تعديل الدستور القائم أو إنتاج دستور جديد، في كلتا الحالتين، المنتج سيعرض على الاستفتاء الشعبي”.
وهذه المرة الأولى التي يبدي فيها النظام السوري انفتاحا على صياغة دستور جديد للبلاد، بعد أن كان يرفض بالمطلق هذه الخطوة، ويعتبر أن دور اللجنة الدستورية هو تعديل الدستور الحالي.
وكان لافروف استبق زيارة دمشق بلقاء مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسون لبحث ما تحقق في الجولة الأخيرة من اللجنة الدستورية.
وقال دبلوماسي غربي يتابع الأوضاع في سوريا “روسيا رجحت كفة الأسد، وفي ضوء مواجهة النظام الآن لأصعب تحدياته أصبحت موسكو في وضع أفضل من أي وقت مضى لزيادة الضغط على الأسد”.
وتعد روسيا أحد أبرز حلفاء دمشق إلى جانب إيران، وقدمت لها منذ بداية النزاع دعماً دبلوماسياً واقتصادياً، ودافعت عنها في المحافل الدولية ومنعت مشاريع قرارات عدة تدين النظام في مجلس الأمن الدولي. وساهم تدخلها العسكري منذ 2015 بقلب ميزان القوى لصالح الجيش السوري.
العرب