تتواصل المواجهات بشكل متكرر بين تركيا واليونان، في مجال شاسع يتضمن قضايا قبرص وشرقي البحر الأبيض المتوسط، وبحر إيجه، والهجرة غير الشرعية، وليبيا والمنطقة الاقتصادية الخالصة، وأمن والحدود وخط النار. وبينما يحافظ المسؤولون الأتراك واليونانيون على مواقفهم، بالتأكيد على الحزم، يلمحون من جهة أخرى إلى استعدادهم لاستخدام القوة، بدون تردد عند الضرورة. علاوة على ذلك، فإن السفن الحربية والطائرات الحربية، لدى البلدين تقترب بشكل خطير من بعضها بعضا، مع إمكانية حدوث تزاحم على حدودهما البرية.
دعونا الآن نلقي نظرة على الأطراف والإمكانات التي يعتمد عليها هذان الفاعِلان:
1- الموقف التركي الحازم في هذه الأزمة، لا يخفى على أحد، أمّا الأطراف والإمكانات التي تعتمد عليها، فإن الإجابة على ذلك واضحة: بعبارة واحدة فقط، أنها تعتمد على نفسها، أي على قوتها الذاتية، وتؤدي قدرتها العسكرية دورًا رئيسيًا في هذا الصدد، فلا مجال للنقاش حول تفوق تركيا على اليونان في هذا المجال، سواء من حيث مواردها البشرية الكبيرة أو قدراتها الدفاعية، التي قامت بتطويرها في الأعوام الأخيرة. تركيا تهدف من خلال استعراض القوة هذا إلى المطالبة بحقوقها: إنها تستخدم قوتها في هذا المجال كأداة رادعة، بعبارة أخرى، بينما تواصل أنقرة نضالها في قضية تؤمن بأنها على حق فيها، فإنها تتصرف من جهة اخرى بثقة بالنفس تستمدها من قوتها الصارمة.
2- الإجابة المختصرة على السؤال حول الأطراف والإمكانات التي تعتمد عليها اليونان، هي كما يلي: «القوى الخارجية إلى حد أكبر». كما كانت في الأعوام السابقة، تعتمد أثينا اليوم أيضًا على الدول الأجنبية، التي يمكن أن تدعمها. إنها تأمل في الحصول على المساعدة من المؤسسات والدول القريبة منها، بدءا من الاتحاد الأوروبي وحتى مصر، معبر استخدام «قوتها الناعمة» في الأزمة الحالية. وتأتي الدبلوماسية العامة، وجماعات الضغط على رأس الأدوات التي تستخدمها اليونان كـ»قوة ناعمة» وفي الوقت نفسه، تستفيد أيضًا من تأثيرات الثقافة اليونانية القديمة وصورتها الشعبية. ورغم التشجيع الذي يحصلون عليه من فرنسا وبعض الدول العربية، إلا أن المسؤولين اليونانيين ليسوا واثقين تمامًا من «أصدقائهم» المذكورين. فهم يدركون أن الاتحاد الأوروبي لن يستطيع طرح الصراع التركي -اليوناني أيضًا على أجندته، في ظل كل هذه الهموم التي لديه حاليًا. وكان الحوار الذي أجراه رئيس الوزراء اليوناني في هذا الإطار مع ترامب، خلال زيارته لأمريكا بداية العام الجاري، مفيدًا للغاية. فعندما قال رئيس الوزراء اليوناني مِيتسوتاكيس، «إذا تعرضت سيادتنا للتهديد، فإننا سنرد عسكريًا» وجه له ترامب السؤال التالي: «ماذا ستفعلون إذا خسرتم أمام تركيا؟».
لا اليونان ولا دول الاتحاد الأوروبي تؤيد الحرب، لأنها ترى عواقبها المدمرة في وقت تزيد فيه روسيا من نفوذها على مستوى البلقان
تجدر الإشارة إلى أن آخر أزمة كبيرة أوشكت بسببها تركيا واليونان على الاشتباك، كانت قد وقعت خلال فترة إخراج أوجلان من سوريا. كان السبب الظاهر للأزمة هو «استضافة» المخابرات اليونانية أوجلان في بلادها أولاً، ثم في سفارة اليونان لدى كينيا. وبعد ضبطها «متلبسة» استطاعت اليونان الخروج من الأزمة بخدوش طفيفة، إثر تدخل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، و»الوعْد» بضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، لكنهم عاشوا بالفعل صدمة وخوفًا ومأساة كبيرة، وكانت هذه حقيقة. لقد تم تحميل مقدّم في المخابرات اليونانية مسؤولية الأزمة، ومضى البلدان في مسار «الصداقة» فترة طويلة، حتى وقت قريب. يبدو أن «الأيام الجميلة» قد شارفت على الانتهاء، عند النظر في التطورات الأخيرة.
لا شك بأن موقف اليونان مختلف تمامًا عن الماضي القريب، حيث وسّعت من جهة نطاق تحالفاتها السياسية، ومن جهة أخرى سرّعت العلاقات الدبلوماسية والبروباغندا. كما أنها تسعى لزيادة قدرتها العسكرية بالتعاون مع قبرص الرومية، رغم الأزمة الاقتصادية التي تمر بها واستمرار وباء فيروس كورونا. يجب الوقوف عند التصريحات التي أدلت بها النائبة البرلمانية اليونانية ليانا كانيللي، الأسبوع الماضي، على قناة تلفزيونية يونانية، قالت كانيللي، من الخطأ الوثوق بفرنسا في قضية شرقي المتوسط، وأضافت، «لا أحد يأتي إلى اليونان لأنه يحبنا. ولا أحد يضحي من أجل مصالح اليونان». النائبة اليونانية قالت أيضًا، «أعتقد أننا ارتكبنا خطأين جسيمين في الاتصال. الأول هو القول إن أردوغان سلطان، أردوغان كذا وكذا. أردوغان عقل استراتيجي صمد من خلال خطواته التي نفذها في الداخل والخارج من أجل بلاده منذ 20 سنة. والثاني هي أن تركيا قوة إقليمية عظمى، ولا يمكنكم الاعتراض على ذلك. إن الذي جعل تركيا قوة عظمى هي القوى الكبرى والناتو، أنتم تقولون إن الاقتصاد التركي ضعيف، لكنكم تتجاهلون أسلحة الناتو الكيميائية في إنجرليك». وهناك بلدان إقليمية أو قوى عالمية لا تظهر بشكل كبير على المسرح حتى اليوم (أو حاليًا) تكتفي بمتابعة مجريات الأحداث بدقة. وتعد روسيا واحدة من هذه البلدان. بوتِين لا يتدخل في الأزمة: ربما يستمتع بمشاهدة الصدام بين حلفاء الناتو، واقتراب الجانب الجنوبي الشرقي للناتو من الانهيار. أمّا البلد الآخر، فهو الولايات المتحدة الأمريكية، التي لا تستطيع أداء دور حيال الأزمة القائمة. ترامب مشغول بهمومه، ويبدو أن هذا الموقف السلبي سيستمر لبعض الوقت، بسبب الانتخابات، لكن مصر والإمارات العربية المتحدة وبلدان أخرى مؤيدة لليونان، تثق بالدعم الذي تحصل عليه عادة من الجانب الأمريكي.
في المحصلة، هذا هو المشهد القائم في الأزمة التركية- اليونانية. وسنرى معًا ما ستظهره الأيام المقبلة، لكن هناك حقيقة مفادها أنه لا اليونان ولا دول الاتحاد الأوروبي تؤيد الحرب، لأنها ترى العواقب المدمرة للحرب التي ستحدث في وقت تزيد فيه روسيا من نفوذها على مستوى البلقان. لذلك يبدو أن الوسائل الدبلوماسية سيتم تفعيلها من جديد في الأيام المقبلة.
توران قشقلاجي
القدس العربي