على مدى السنوات الخمس الماضية لم يكن هناك في الشرق الأوسط إلا أخبار سيئة تدهورت فيها أحوال الدول فزاد عدد الدول الفاشلة، وانهارت فيها حالة الإقليم، فكانت التدخلات الأجنبية ومعها تصاعدت الحروب الإقليمية. وبشكل ما تلقينا نحن سكان الإقليم أن مكانتنا في العالم تراجعت مرة، لأن آسيا قد باتت أكثر أهمية، ومرة ثانية لأنه باتت هناك بدائل للنفط، ومرة ثالثة لأن العالم العربي – قلب الإقليم – الذي لم تلحقه الثورة الديمقراطية العالمية التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفياتي، لم يتحمل ثورات «الربيع العربي» التي نكبت المنطقة كلها والعالم بأكبر موجة للإرهاب والعنف حملت الدين شعارًا، والملة راية. والحقيقة أن الأحوال كلها لم تكن بهذا السوء الذي جرت إذاعته بنشاط مدهش عن طريق الإعلام والساسة، فقد صمدت دول الملكيات العربية جميعًا، ما كان فيها بلد نفطي، وما لم تعرف أراضيه حقل نفط، ومن بعدها فإن مصر أكثر الدول العربية سكانًا وذات الأهمية الاستراتيجية والتاريخية صمدت هي الأخرى في مواجهة الفاشية الدينية، بل نجحت في أن تطيح بها، ومع دفع ثمن الإرهاب أخذت في التعافي السياسي والاقتصادي. ولكن ربما كانت أهم الأخبار الطيبة، أن القوى العربية التي صمدت وقاومت لم تلبث أن بدأت هجومًا مضادًا على جبهات متعددة، بالسياسة والسلاح معا في سوريا والعراق واليمن وسيناء وليبيا، ومناطق أخرى في أفريقيا وآسيا، وبالتعاون أو دون التعاون مع دول العالم الأخرى.
وبشكل أو آخر فإن كل مسرح من مسارح العمليات هذه فرض منطقه الخاص من حيث شبكة التحالفات الدولية والإقليمية، وأسلوب العمل السياسي والعسكري الذي يعالج القضية من جذورها. ويبدو اليمن الآن كمن يمثل الضوء في نهاية النفق، فقد فرض أسلوبًا للعمل قام على بناء تحالف عربي بقيادة المملكة العربية السعودية، ومعه تحالف دولي يأخذ من الولايات المتحدة ما يحتاجه، وتحالف محلي يمني بين القيادة الشرعية للبلاد التي ترفض الحكم البائد (علي عبد الله صالح وشركاؤه)، والحكم الطائفي الممول والمسلح إقليميا من قبل إيران (الحوثيون)، والإرهابيون من مشارب مختلفة في مقدمتهم تنظيم القاعدة. الاستراتيجية العسكرية بدأت على غرار ما جرى على جبهة «داعش» عبر الحدود السورية العراقية من قبل التحالف الدولي والإقليمي الذي تقوده الولايات المتحدة بالاستخدام الكثيف للقوة الجوية على أن تتدخل القوة البرية في مرحلة تالية لتغيير الواقع على الأرض. كان ذلك هو الترجمة العملية لما ذكره الرئيس الأميركي باراك أوباما بإضعاف «داعش» ثم بعد ذلك تدميره. في ذلك الوقت جرى التشكيك بقوة في الاعتماد على القوة الجوية، وكان هناك تلهف على وجود قوات برية على الأرض. وبعد أكثر من عام على بدء العمليات على الجبهة السورية العراقية، وشهور على الجبهة اليمنية فإن الواقع جد مختلف، فبينما ساء الوضع أكثر في العراق وسوريا، فإن الحالة في اليمن تشكل ضوءًا ساطعًا في نهاية النفق.
الاستراتيجية عندما جرى تطبيقها في اليمن (الإضعاف ثم تدمير القوة المعادية) كان الإنجاز باهرًا، فمن ناحية كان الصبر كافيًا، ولم يكن أحد متعجلاً لنتيجة، فضاعت ميزة استراتيجية طالما استغلتها القوى المعادية – وهي في هذه الحالة الحوثيون وجيش علي عبد الله صالح – لكي تنهي المعركة لصالحها. ومن ناحية أخرى، ورغم كل التوقعات المتشائمة الغربية عن مدى كفاءة القوة العربية واستعدادها للقتال، فقد ظهرت مهارات كبرى لدى القوات العربية المشاركة في القتال، التي كان لديها أفضل أنواع الطائرات في العالم، وثبت أيضًا أن لديها أفضل طيارين. لم تكن المسألة فقط أن السماء كانت خاوية من رد فعل مضاد، وإنما لأن المهارة القتالية للطيارين ومعاونيهم على الأرض في اختيار الأهداف وتدميرها، جعلت نهاية كل غارة جوية تشهد بأن قوى الانقلاب على الشرعية اليمنية باتت أكثر ضعفًا. وعندما حانت اللحظة المناسبة تحول نشاط المقاومة اليمنية من الدفاع إلى الهجوم، وتم تحرير عدن، وبات تحرير الجنوب اليمن وشيكًا، واختراق صنعاء على الأبواب. وببساطة كان التكامل ما بين القوة الجوية وتلك البرية مثاليًا على جبهة اليمن، بينما ظل متخبطًا ومترددًا وأحيانًا عاجزًا على جبهة سوريا والعراق.
المقارنة بين الجبهتين من الناحية العسكرية البحتة تبدو مغرية من الزاوية الفنية في معركة للأسلحة المشتركة، ولكن الضوء البادي على جبهة اليمن يبدو مغريًا أكثر ليس لأنه سيحل الأزمة اليمنية، ولكن ربما لأنه سوف يخلق نموذجًا لحل الأزمات الأخرى. فما ينقص اليمن الآن ليس فقط استكمال المسيرة، بالصبر الذي كانت عليه في حرب «بطيئة»، ودعم الحكومة الشرعية في عدن والجنوب اليمني، وإنما أيضًا أن تكون المرحلة الأخيرة من القتال مصحوبة بخطة سياسية واستراتيجية تحقق نصرًا كاملاً على الطائفية والنفوذ الإيراني، وتعطي للشعب اليمني حقه المشروع في حياة كريمة تشارك فيها كل الأقاليم والطوائف. لقد سبق أن نوهنا لأكثر من مرة بأن السياسة هي امتداد للحرب بوسائل أخرى، وهي في هذه المرة عليها أن تجذب الأعداء لكي يلقوا السلاح، والحلفاء لكي يعيدوا بناء اليمن والإقليم أيضًا. وهنا ترد عدة أفكار يتضمنها مشروع عربي يبدأ إعلانه من مجموعة دول الخليج العربية، ويكون رسالة للعرب وللعالم أيضًا. أولا، أن الحوثيين المواطنين في الدولة اليمنية سوف يكون لهم حق المواطنة وإدارة إقليمهم الخاص في ظل الدولة اليمنية الموحدة على أسس فيدرالية. وثانيًا أن إعادة بناء اليمن من جديد سياسيًا واقتصاديًا سوف يلقى كل العون من العرب طالما كان يحافظ على وحدة اليمن، وعلى تنوعه المذهبي والقبائلي. وثالثًا فإن هذا المشروع ليس مطروحًا للمدى المتوسط أو البعيد، ولكن هناك خططًا جاهزة للتعامل الفوري مع المناطق المنكوبة في اليمن واستعادة البنية الأساسية لفاعليتها. ورابعًا أن حلم كل اليمنيين باللحاق بمجلس التعاون الخليجي ممكن، بل إنه ضرورة من الناحية الاستراتيجية، فاليمن الآن إما أن يكون في حضن المجلس، أو أن إيران لن تتواني في استخدامه خنجرًا دائمًا في خصره. وبالطبع فإن هناك إشكاليات كبرى في هذا المجال ناجمة عن الفارق في المستويات الاقتصادية والاجتماعية، ولكنها إشكاليات سبق تجاوزها في تجربة الاتحاد الأوروبي باستخدام أساليب متنوعة للارتباط عبر فترات زمنية يتحقق فيها أهداف تضيق الفارق بين الطرفين. الأمر المهم أن يكون معلومًا منذ البداية أن عزلة اليمن عن المجلس سوف تصل إلى نهايتها في زمن معلوم. وللمتخصصين آراء كثيرة في هذا الشأن سوف تُطرح في حينها.
د. عبد المنعم سعيد
صحيفة الشرق الأوسط