أعلنت الصين انتصارها في الحرب على “كوفيد- 19″، في مثل إضافي على تفوّق السلطات الشيوعية الصينية على الحكومات الغربية. وأُقيم احتفال ضخم في “قاعة الشعب الكبرى” في بكين، وُزّعت خلاله ميداليات على مواطنين اعتُبر أنهم أدّوا أدواراً أساسية في هذه الحرب. وفي إشارة رمزية إلى أن الصين تخطّت هذا الموضوع، لم يرتدِ الرئيس شي جين بينغ كمامة، وصافح عدداً من المسؤولين.
وفي هذه الأثناء، تعاود أعداد الإصابات ارتفاعها في أوروبا، فيما تُسجّل الهند 90 ألف حالة جديدة يومياً، وتحوّل موضوع تفاوت الاستجابة داخل الولايات المتحدة إلى مسألة محورية في إطار الانتخابات المقبلة. إنه لتعارض صارخ بالفعل.
بالنسبة إلى كثيرين، سيبدو من الوقاحة أن تسمح الصين بانتشار فيروس بشكل كبير ثم تنفي ما يحصل، وتصيب بقية الكوكب بالعدوى قبل أن تمضي في إعلان انتصارها في النهاية. من ناحية أخرى، على المدى القريب في الأقل، خرجت الصين من هذه الأزمة بهيئة أفضل بكثير من الآخرين. وعلينا تقبّل هذا الموضوع. في المقابل، تبدو المسألة مختلفة كلياً على المدى البعيد.
في ذلك الصدد، يكفي إجراء بعض الحسابات كي يتبيّن سبب تفوق الصين في هذه الناحية. ووفق ما يعلم معظم الناس، تحتل الصين المرتبة الثانية بين الاقتصادات الكبرى عالمياً، وتسير بخطوات ثابتة أيضاً في طريقها نحو إغلاق الفجوة التي تفصلها عن الولايات المتحدة. خلال السنوات الأخيرة، وصلت نسبة نموّها إلى ما يتراوح بين سبعة وثمانية في المئة مقابل ما يتراوح بين اثنين وثلاثة في المئة بالنسبة للولايات المتحدة. بمعنى أن الفجوة بينهما بلغت خمسة في المئة. أما هذه السنة، إذا استندنا إلى توقعات “صندوق النقد الدولي”، فمن المتوقع أن ينمو اقتصاد الصين بنسبة واحد في المئة بينما ينكمش اقتصاد الولايات المتحدة بنسبة ثمانية في المئة. وسيشكّل ذلك فجوة تسعة في المئة بينهما. واستطراداً، ثمة فجوة أوسع بين الصين وأوروبا.
قد يتبيّن أن هذه الأرقام خاطئة، وعلينا توخّي الحذر دائماً من أي بيانات اقتصادية تصدرها الصين. لكن، لا يمكننا تجنّب خلاصة قاسية مفادها أن الفيروس سدّد ضربة أقسى للغرب مما فعل للصين. حتى أنه عجل حوالى عقد من الزمن تاريخ تفوّق الصين على الولايات المتحدة لجهة الحجم الاقتصادي. بالتالي، يمكنكم رؤية المنطق الذي حرّك تلك الاحتفالات في بكين.
في مقلب مغاير، من المرجح أن تأتي تأثيرات “الجائحة” على المدى البعيد مختلفة جداً. لطالما استطاعت المجتمعات “الاستبدادية” أن تُرغم الناس على فعل أشياء لا يمكن إرغامهم عليها في المجتمعات الليبرالية. وقد أتاح ذلك للصين أن تفرض إغلاقاً أكثر فعالية من ذلك الذي فرضه أي بلد غربي، مع أن بعض البلدان الأصغر حجماً كنيوزيلندا نجحت على ما يبدو في عزل نفسها بفعالية كبيرة. من ناحية أخرى، يترتب على سياسات الصين تبعات سوف تتكشف تدريجاً. وتأخذ هذه التبعات شكلاً اقتصادياً وبشرياً.
لعل أهم التأثيرات الاقتصادية على المدى البعيد سيتمثل في أن بقية العالم، خصوصاً الولايات المتحدة، سوف تُقارب العلاقات التجارية والمالية مع الصين بحذر أكبر. وما حدث يبرّر بشكل من الأشكال سياسة ترمب القاضية بشنّ هجوم تجاري على الصين. وطالما لا يمكن الوثوق بانفتاح الصين وصراحتها في مواجهة حالة صحية طارئة، فلا يمكن كذلك الوثوق بها في طرق أخرى. لذا، سيترتب على بقية العالم، أوروبا ضمناً، أكثر فأكثر أن يختار. هل يريد مزيداً من المبيع مع الصين أم يفضل الولايات المتحدة عليها؟
في ذلك السياق، أتت مسألة شركة “هواوي” قبل “كوفيد- 19”. لكن الشك الأميركي في أن “هواوي” تؤدي دور عميل الحكومة الصينية، يمكن تبريره من ناحية ما عبر طريقة تعاملها (الصين) مع أزمة الفيروس. لن تصبح منبوذة، لكن الشركات الصينية ستواجه رياحاً عاتية عند محاولتها دخول الأسواق الغربية، ما سيتسبب بتراجع بعض التقدم الذي أحرزته خلال العقدين الأخيرين.
وفي سياق متصل، قد تحمل التأثيرات البشرية أهمية أكبر. ومن أجل أن تنتقل الصين من موقع الاقتصاد المتوسط الدخل إلى اقتصاد متطور بالكامل، يجب أن يُتاح لها الوصول إلى اقتصاد المعرفة العالمي. ويجب أن تستقطب شركاتها وجامعاتها أفضل العقول من أنحاء العالم كافة. ولا شك أن الصين منتج كبير لرأس المال البشري، فعلماء الرياضيات الصينيون مثلاً يعتبرون الأفضل عالمياً. في المقابل، تمثل أحد أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي في أن غياب التعاون مع البلدان الأخرى، يؤدي إلى التراجع. يمكنك أن تخلق جيوباً من التفوّق، لكنك لا تستطيع المنافسة في المجالات كلها.
وحتى الولايات المتحدة لا يمكنها المنافسة في كل شيء، لكنها تستقطب أشخاصاً لامعين وطموحين من كافة أنحاء العالم. ولا يمكن للصين فعل ذلك. ومنذ سنوات عدة، يتردّد خبراء غربيون بشأن الهجرة إلى الصين، ربما. ومن الأرجح أن يطول ترددهم بعد تجربة الأشهر الأخيرة.
علينا جميعاً أن نسعى إلى التعلم من طريقة سيطرة الصين على “كوفيد- 19″، ونولي كل الاحترام لهذا الإنجاز. وفي المقابل، علينا أن نتنبه كذلك إلى التبعات الطويلة الأمد لسياسات الصين في هذه المسألة وغيرها، ونظل حذرين وجاهزين.
هاميش ماكراي
الشرق الأوسط