فشل ثورة 1979 يقود إيران إلى المزيد من التشدد، وسط توقعات بأن يتنازل رجال الدين الذين يرتدون العمامات عن السلطة والنفوذ لفائدة الحرس الثوري الذي يستمر بترديد الشعارات القديمة وإظهار نفسه وريثا شرعيا للخميني، ما يؤهله لأن يكون على رأس السلطة، لكن بأي قدرات وأي فرص للنجاح؟
طهران – يتمدد نفوذ الحرس الثوري في كل القطاعات والمؤسسات، ويجسّد البرلمان الإيراني أحدث دليل يدعم صحّة هذا النفوذ، إذ كان رئيسه، محمد باقر قاليباف، لواءً سابقا في الحرس الثوري. بينما يعتبر ثلثا أعضاء البرلمان إما أعضاء سابقين أو منتمين إلى الحرس الثوري الإيراني والمنظمات التابعة له إلى اليوم.
وطالما توقع الكثيرون في إيران والولايات المتحدة استيلاء الحرس الثوري على الحكومة الإيرانية، وتتمثّل الخطوة التالية في انتخاب مرشح تابع للحرس الثوري الإيراني رئيسا سنة 2021.
وتبقى الصلاحيات في السلطة منقسمة، إذ تدير المؤسسات المنتخبة شؤون الدولة في ظل مكتب المرشد الأعلى الأكثر قوة، والذي تخضع له المنظمات الأمنية، بما في ذلك الحرس الثوري. ولأكثر من عقدين، حاول الإصلاحيون داخل المؤسسة السياسية الإيرانية تعزيز قوة المؤسسات المنتخبة لتواجه نفوذ سلطة الدولة الموازية. أمّا الآن فقد تقبّلوا فشل هذا المشروع وهم يستعدون لغزو قادة الدولة الموازية للهيئات المنتخبة لتعزيز سلطتهم.
ليس حقّا أن إيران ستشهد حكومة يديرها الجيش قريبا نتيجة مفروضة، ولكنها تبدو الأكثر احتمالا. فالإيرانيون محبطون من التوترات الحزبية والأزمات المتفاقمة بعد أن استنزفت العقوبات الأميركية شريان الحياة الاقتصادية للبلاد التي انخفض مستوى القدرة الشرائية فيها إلى ثلثي ما كان عليه قبل عقد، مع تنامي هوس الجمهور بالثروة. كما يمهّد الكبرياء والاستياء من عدم تبوؤ الإيرانيين المكانة الدولية التي يستحقونها إلى ظهور شكل جديد من أشكال القومية.
ويبدو الرئيس حسن روحاني، غير القادر على الوفاء بالوعود التي تعهد بها في مجال السياسة الداخلية أو الخارجية، مستسلما كما توحي بذلك إدارته للبلاد في مواجهة الوباء. فقد تردّد في الاعتراف بأن فايروس كورونا المستجد يمثّل تهديدا وطنيا حتى فات الأوان، وأدت رسائله المتناقضة إلى إرباك الجمهور وتعرض لانتقادات من المرشد الأعلى نفسه. ومن جهة أخرى، تزداد قبضة الحرس الثوري الإيراني قوة. لكن كفاءاته قد تمنعه من أن يصبح وصيا على الدولة.
لقد أصبح الحرس الثوري الإيراني محور الاهتمام وطنيا ودوليّا منذ أواخر التسعينات، عندما أمسك الإصلاحيون السياسيون بمقاليد الحكومة الإيرانية المنتخبة. وأصبحت وسائل الإعلام الإصلاحية تراقب الحرس الثوري الإيراني وتنتقد أداءه. وكان ردّ الحرس هو بعث منظومة إعلامية خاصة به تتولى نشر صورة مبالغ فيها عنه كونه ممثلا لخط الثورة، والوحيد القادر على مواجهة الأعداء في الداخل والخارج.
لقد أصبح الحرس الثوري يصوّر نفسه على أنه علاج لمعاناة الناس في البلاد، لكنه كان في الحقيقة جزءا من المشكلة، إذ أنه شكّل عائقا أمام مساعي الدولة لتحقيق التنمية المستدامة. ففي ظل العقوبات الأميركية، عمل الحرس الثوري على توسيع الاقتصاد السري بمساعدة نخبة فاسدة جديدة من “رجال الأعمال المهربين”. وكان يمنع الحكومة من انتداب الخبراء الذين يعتبرهم غير مناسبين سياسيا، كما كان يدفع السياسات والمشاريع الحكومية إلى الانحراف عن مسارها ويُطوّعها لرغباته في نفس الوقت الذي يحمّل فيه السياسيين والبيروقراطيين المسؤولية.
وقد اعتاد الحرس الثوري الإيراني على تشويه سمعة خصومه، مثل أعضاء حكومة روحاني، الذين كان يصفهم بـ”المتواطئين” و”منعدمي الكفاءة” و”الموالين للغرب”. وهو يلقي باللوم، حاليا، في علاقة بالمصاعب التي تواجهها البلاد، على كلّ الفصائل السياسية بما في ذلك التيار المتشدد.
ودأب الحرس الإيراني طوال العقد الماضي، على الترويج لتاريخ محرّف من خلال الأفلام الوثائقية والأفلام الروائية والمسلسلات التلفزيونية المصممة لاستمالة جماهير الشباب الذين لم يعيشوا أحداث ثورة 1979 وما بعدها. وتقدم هذه الإنتاجات رواية تظهر اهتمام الحرس الثوري بالشعب ونضاله من أجل الوطن بينما كانت النخب السياسية تتصارع وتعمل ضد مصالح الأمة لتحقيق مكاسب شخصية أو حزبية.
وفي المسائل العالقة، يصوّر الحرس الثوري نفسه على أنه الحامي الوحيد الموثوق لإيران، والقوة التي هزمت داعش، ومنعت الأجانب و”عملاءهم المخربين” من الإضرار بالبلاد. كما يفتخر بقدراته التكنولوجية، ففي حين فشلت حكومة روحاني أربع مرات في إطلاق قمر صناعي صغير لتصوير الأرض، نجح هو في وضع قمر صناعي عسكري في مداره منذ المحاولة الأولى.
ويروج قادة الحرس الثوري لدوره كمنقذ للبلاد حتى في الأعمال الخيرية. فخلال الوباء، زعم أنه وزع مساعدات غذائية على 3.5 مليون أسرة إيرانية كانت في أمس الحاجة إليها، وأن “معسكراته الجهادية” تنخرط في أنشطة لمساعدة المحرومين. لكن منظمات المجتمع المدني المستقلة تشكك في مدى تأثير هذه التدخلات ولكنها لا تمتلك أذرعا إعلامية فعالة مثل تلك التي لدى الحرس الثوري.
غير أنّ هذا القناع الإنساني لا يحسّن صورة الحرس الثوري الإيراني كقامع عنيف. إذ لا يزال المواطنون الليبراليون المنتمون إلى الطبقة الوسطى في طهران يتذكرون استعراضه للقوة خلال احتجاجات الحركة الخضراء سنة 2009، وكان لحملته الأثر السيء على المظاهرات التي اندلعت في 2019 وما انجرّ عنها من عواقب وخيمة على الإيرانيين الفقراء والمنتمين إلى الطبقة الدنيا في أماكن أخرى. وهكذا، يبدو الحرس الثوري وكأنه يرغب في إثارة الخوف وكسب الحب في نفس الوقت، فبسلام ميكافيلي يوظّف المكر والازدواجية.
سعى الحرس الثوري إلى جعل النخب الاقتصادية والثقافية تتأقلم مع وجوده وترتاح له. وربّما يكون في الحديث عن دوره الاقتصادي شيء من المبالغة، لكن الضبابية التي تلفّ قطاع الأعمال في البلاد تجعل من الصعب التأكد من الحقائق. فحسب دراسة حديثة، لم يكن الحرس الثوري أو غيره من المنظمات شبه الحكومية حتى 2014 يمتلك الأغلبية في أي من القطاعات الاقتصادية الأولى الـ22 في إيران.
وتختار الشركات التي تمتلكها البرجوازية العلمانية الإيرانية أحيانا تجنيد أعضاء مجالس إدارات ومديرين تابعين للحرس الثوري من أجل تسهيل أعمالها.
كما يعمد الحرس الثوري أحيانا إلى إنشاء شركات بالوكالة للعمل تحت ستار القطاع الخاص. وبهذه الوسائل وغيرها، أصبح الحرس الثوري الإيراني طرفا لا غنى عنه وأحد أكبر المقاولين العاملين في قطاع البناء في البلد. بيد أنه لا يمتلك الموارد البشرية والخبرة اللازمة لإدارة أعمال بملايين الدولارات في مجالات الاتصالات والبنوك وبناء السفن والصناعات البتروكيماوية. وهنا، يعمل قسم كبير من البرجوازية العلمانية الإيرانية إما مباشرة أو كمقاولين فرعيين للتنظيم العسكري.
قبل عقد واحد، اعتبرت النخب الثقافية العمل في المشاريع التي أطلقها الحرس الثوري أو مولها أمرا مرفوضا، أمّا الآن، فقد تغيّرت الأوضاع، فعلى سبيل المثال، عمل مسعود كيميايي، وهو مخرج سينمائي شهير لاقت أفلامه شهرة واسعة قبل الثورة، مع منتج تابع للحرس الثوري الإيراني مؤخرا. وأنتج المخرج محمد حسین مهدویان، وهو من أشد المؤيدين لروحاني، أفلاما وثائقية حائزة على جوائز وأفلام روائية يدعمها الحرس الثوري الإيراني.
يتمتع الحرس الثوري الإيراني بالعديد من المؤهلات التي تخوّل له التنافس على السلطة في البلاد، لكن هزيمته ممكنة. فعلى الرغم من الحصة الاقتصادية الكبيرة التي يمتلكها الحرس الآن، لا يزال الفرع التنفيذي يحكم الاقتصاد في جميع المجالات الحيوية. وتضع الحكومة السياسة المالية والنقدية، وتتحكم في موارد النفط والغاز، وتدير خزينة الدولة. كما تهيمن الحكومة على الرعاية الاجتماعية والمساعدات الإنسانية، التي يتزايد اعتماد الحرس الثوري عليها لبناء شبكات المحسوبية الخاصة به.
بالإضافة إلى ذلك، يبقى الحرس الثوري داخليا أكثر انقساما وأقل انضباطا مما يبدو. وكانت التوترات حاضرة منذ البداية، عندما نشأت النزاعات بين القادة رفيعي المستوى خلال الحرب الإيرانية العراقية. وأصبح الضباط المحبطون الذين تركوا الحرس الثوري الإيراني خلال ثمانينات القرن الماضي دعاة بارزين للإصلاح السياسي. كما ترك البعض الفيلق أثناء خلافات داخله في أوائل تسعينات القرن العشرين. وغادر آخرون في أوائل القرن الحادي والعشرين.
واليوم، يعرف الخبراء الصراعات بين الأجيال داخل الحرس الثوري، كما يعرفون الخلافات التي تشق الجيل الشاب داخله. وتنعكس هذه الخلافات عبر وسائل الإعلام التابعة له.
عندما يتعلق الأمر بإقناع الجمهور، فإنّ لا قبضة الحرس الثوري الوحشية ولا مدّ يد المساعدة جلبا له الاحترام الذي يريده. لقد خلق اغتيال الولايات المتحدة للواء قاسم سليماني في يناير 2020 لحظة تضامن وجيزة حيث حجب الإيرانيون الغاضبون صورهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي احتجاجا وحدادا. ولكن بعد أيام، لما تورّط الحرس الثوري في إسقاط طائرة ركاب أوكرانية، احتفظ نفس الأشخاص بصورهم السوداء للتعبير عن غضب مختلف. وهدد مسعود كيميايي بسحب فيلمه من المهرجان الأول في البلاد، وفرض التلفزيون الوطني رقابة على خطاب محمد حسین مهدویان في حفل ختام المهرجان لأنه تعاطف مع آباء المتظاهرين الذين قُتلوا خلال تحرّكات سنة 2019 علنا.
ويواصل الحرس الثوري الإيراني تهديد المعارضين وقمعهم، لكن الخوف لا يستمر دائما. في أبريل، ادعى القائد العام للحرس الثوري أن المجموعة اخترعت جهازا يمكنه اكتشاف فايروس كورونا المستجد عن بُعد مسافة قدرها 328 قدما وخلق هذا موجة عفوية من السخرية اجتاحت منصات وسائل الإعلام. ووصفت جمعية الفيزياء الإيرانية، وهي جمعية علمية محافظة لم تصدر أي بيان سياسي من قبل، هذا الادعاء بأنه “خيال علمي”.
تكمن قوة الحرس الثوري السياسية الأكبر في ضعف خصومه. فقد فاز روحاني بالانتخابات في 2013 و2017 بعد أن وعد بإعادة الأمل للشعب الإيراني. ولكن فترة ولايته تقترب من نهايتها وسط يأس واسع النطاق. فقد اندلعت احتجاجات سنتي 2018 و2019، سحقها الحرس الثوري بينما ساعدت حكومة روحاني (التي تعدّ ائتلافا من المحافظين والمعتدلين والبيروقراطيين والإصلاحيين غير الفاعلين والتكنوقراط من أصحاب الولاءات السياسية المتذبذبة) قوات الأمن أو لم تتدخّل لوقف انتهاكاتها. وتفتقر الإدارة الآن إلى المصداقية اللازمة لتعبئة قاعدتها الاجتماعية ضد الحرس الثوري في صناديق الاقتراع أو في الشارع.
ومع ذلك، يبقى ما إذا كان الحرس الثوري الإيراني يرغب في إدارة الحكومة حقا هو سؤال أكثر تعقيدا. فالموارد السياسية والاقتصادية التي تحتفظ بها الحكومة مغرية. لكن التجربة أظهرت أن من يتولى السلطة التنفيذية، بغض النظر عن انتمائه السياسي، يصبح شوكة في جنب الحرس الثوري. فحتى الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، الذي جاء بدعم كامل من الحرس الثوري، لم يواصل نفس مساره. ويمكن للحرس الثوري، بصفته منظمة شبه حكومية، أن يتمتع بأفضل ما في العالمين، ويحافظ على بعده عن الحكم اليومي ويتدخل عندما يرغب في ذلك فقط. أما إذا أدارت المنظمة شؤون البلاد اليومية، فستضطر إلى إجراء تعديلات وتنازلات مستمرة قد تضر بسمعتها الثورية.
فعلى سبيل المثال، بعد مقتل سليماني، دعا بعض مقاتلي الحرس الثوري الإيراني إلى “انتقام قاس” لكن ذلك لم يحدث أبدا. ولم يتحمل قادة الحرس الثوري عبء غضب المقاتلين الأكبر وعملوا على إعادة توجيهه نحو “السياسيين الجبناء”.
العرب