تعاون إقليمي لوقف التدخلات التركية في المنطقة العربية

تعاون إقليمي لوقف التدخلات التركية في المنطقة العربية

تركيا باتت قاسما مشتركا لأغلب أزمات المنطقة، وهو ما يبرر الموقف العربي القوي الذي صدر منذ أيام ضد تحركات أنقرة التي تستكمل الأدوار التي لعبتها طهران. ومن شأن الإعلان عن لجنة وزارية عربية متخصصة بالملف التركي أن يحوّل التحرك العربي من دائرة التصريحات إلى دائرة الافعال.

افتقدت المخاوف العربية من التدخلات التركية في دول المنطقة إلى التعاون والتنسيق لمكافحتها، واقتصرت على الجهود الفردية لكل دولة، حسب درجة التهديدات التي تمثلها أنقرة، وبسبب وجود تباين في الرؤى لم تحظ عملية المواجهة بموقف جماعي صارم، فهناك دول عربية تتواطأ وتتقاعس وتتآمر معها، الأمر الذي كشفه اجتماع وزراء الخارجية العرب رقم 154، الأربعاء الماضي، حيث رفضت أربع دول إدانة التدخلات التركية في ثلاث دول عربية.

كشف الاجتماع الأول للجنة الوزارية المعنية بمتابعة هذا الملف، والمشكّلة من مصر والسعودية والإمارات والبحرين والعراق، والأمين العام للجامعة العربية، عن رغبة في إيجاد آلية ناجعة للتعامل مع أنقرة، وهي خطوة نوعية مهمة، تعبر عن ارتفاع مستوى التنسيق بين هذه الدول، لأن الفترة المقبلة قد تشهد تماديا في مغامرات تركيا.

تشير مشاركة العراق في اللجنة إلى رغبة رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي تصحيح أخطاء من سبقوه، ومواجهة الممارسات التركية السافرة في أراضي بلاده، ضمن منظومة عربية لديها مجموعة من المشتركات السياسية بشأن دور أنقرة في المنطقة، الذي بات مزعجا بعد تماديه في كل من سوريا والعراق وليبيا، وتطوير علاقاته مع قوى طائفية وحزبية مؤثرة، في لبنان واليمن والسودان والصومال وجيبوتي.

تحمل مشاركة بغداد إشارة على انخراطها مجددا في الصف العربي، والاحتفاظ بمسافة بعيدة عن إيران التي تهيمن على مفاصل القرار فيها، وتمهد لزيادة وتيرة التفاعل مع الأزمات الإقليمية، وقطع الطريق على محاولات استمالتها من قبل أنقرة، والحد من ممارسة ضغوط مكثفة عليها من أيّ جهة مضادة، فوجود أصوات عربية مؤيدة لبغداد يوفر لها قوة دفع جيدة لاستعادة دورها في الفضاء العربي.

خلافات وقواسم مشتركة
أفصحت دول المقاطعة العربية لقطر، مصر والسعودية والإمارات والبحرين، عن قلقها من الدعم المتواصل للإرهابيين والمتطرفين في المنطقة، ولم تخف هواجسها من العلاقة الواضحة التي تربط هؤلاء بأنقرة، وجرى اتخاذ حزمة من التصورات لمواجهتها، غير أنها أخفقت في الحصول على مردود، ولم تتبلور في خطوات محددة.

مع تدشين لجنة المتابعة يمكن أن يتم التحرك حثيثا على أكثر من مستوى، فقد أصبحت تركيا قاسما مشتركا في غالبية الأزمات التي تنتشر في المنطقة، وخلافاتها تجاوزت ملفي سوريا والعراق، فما تقوم به في ليبيا يؤكد عزمها مد بصرها إلى دول أخرى، والسعي لمواصلة شد الأطراف العربية عبر الإمعان في زيادة مساحة الصراعات.

من الصعب الحكم على الدور الذي يمكن أن تقوم به اللجنة العربية حاليا، لكن الإعلان عنها في هذا التوقيت وعقد اجتماعها الأول والترتيب لعقد اجتماع ثان من العوامل التي تعزز الثقة في أهمية التحرك بصورة سريعة، وعدم الارتهان لإرادة الجامعة العربية في ظل وجود دول لا تخجل من استدعاء التدخلات التركية بنفسها، وأخرى تأبى التوقيع على مراسم إدانتها.

تتصرف أنقرة وفقا لمخطط مدروس من جانبها وآخرين لإضعاف الدول العربية، وتواصل المسيرة التي بدأتها إيران منذ حوالي أربعة عقود، في مجال استمالة عناصر محلية موالية لها، واختلاق أزمات جانبية وتغذيتها بكل الأدوات التي تقودها إلى رفع سقف السخونة السياسية والعسكرية، وزادت عليها تبني سياسة تسفير المتطرفين والمرتزقة، ونقلهم من مكان إلى آخر عبر الحدود كرأس حربة لتنفيذ أجندتها.

تتصرف أنقرة وفقا لمخطط مدروس من جانبها لإضعاف الدول العربية، وتواصل المسيرة التي بدأتها طهران منذ حوالي أربعة عقود

إذا لم تجد هذه الممارسات موقفا عربيا حاسما سوف تتجاوز حدودها الراهنة، لأن التعويل على المجتمع الدولي وقوانينه وأعرافه وتقاليده لم تثبت إيجابيته حاليا، حيث تتصرف أنقرة كأنها تحظى بمباركة قوى كبرى، وتمكنت من التسلل بسهولة إلى مناطق كثيرة، وتتمترس خلف سياسات تتعارض تماما مع ثوابت حسن الجوار.

تحصر اللجنة العربية مواجهة تركيا في الشق الدبلوماسي، واستخدمت لهجة حادة في إدانتها، لكنها لم تظهر ملامح لتطويرها إلى الشق العسكري، مع أن معظم تدخلات أنقرة أخذت منحى القوة الباطشة، في سوريا والعراق وليبيا، وهو ما يقلل من الأهمية المادية للجنة ويجعلها أثيرة لحسابات سياسية تكبلها، وربما لا تتعدى إجراءاتها المقبلة نطاق الدور المعنوي بما يجعل تركيا تواصل رفض الانصياع لعدم التدخل.

تملك الدول الخمس التي تتكون منها اللجنة شبكة علاقات سياسية واقتصادية جيدة، وتمثل في مجملها اتجاها لما يوصف بالدول المعتدلة في المنطقة، وتتبنى خطابا يحضّ على الأمن والاستقرار، في مواجهة خطاب تؤيده تركيا، يحرّض على زيادة رقعة النزاعات والتوترات، كوسيلة توفر لها بيئة مناسبة لتدخلاتها.

يحد الإعلان عن الدور السياسي الذي سوف تقوم به اللجنة من التكهنات التي ذهبت إلى إمكانية عودة الدفء لعلاقات تركيا مع بعض دولها، أو التوصل إلى تفاهمات حول عدد من القضايا محل الخلاف، وتعمدت أنقرة توصيل رسائل بهذا المعنى إلى القاهرة مثلا، غير أن تصرفاتها العملية ذهبت بعيدا عن ذلك.

كما أنّ مصر لم تتجاوب معها، وأوقفت الكلمة الحادة التي ألقاها وزير خارجيتها سامح شكري في الاجتماع الأول للجنة إشارات جس النبض التركية، ودحضت سيناريوهات توقعت لقاء أنقرة والقاهرة على أرضية مشتركة في بعض المشكلات الإقليمية، فلا تزال تركيا تلقي بثقلها في ليبيا، ومستمرة في دعم الميليشيات هناك.

تحتاج اللجنة التي وصفت صراحة بأنها معنية بمتابعة التدخلات التركية، تطوير دورها، فالرّصد والتوصيف والإدانة، كلها عوامل لا تكفي للردع، ولا تحسم معركة سياسية أو عسكرية ضارية، وإذا كان الخيار الثاني مستبعدا لأسباب إقليمية ودولية متعددة، فمن الضروري أن ينطوي الخيار السياسي على جملة من المحددات.

الأول: القيام باستدارة سياسية تمنح عمل اللجنة العربية فرصة للقبض على زمام المبادرة، فمن الملاحظ أن الطريقة التي تواجه بها التدخلات التركية تنحصر في إطار رد الفعل، وتقوم أنقرة بممارسات مختلفة ثم تتوالى الإدانة، وهي طريقة منحتها يدا طولى، حيث يحتاج اللحاق بها وقتا، يكون الواقع العملي أحدث تأثيراته المطلوبة.

ونظرة واحدة لما تقوم به في ليبيا تكفي، فمن دعم معنوي لحكومة الوفاق في طرابلس إلى مذكرات تفاهم، إلى توقيع اتفاقيات في مجالات متنوعة، وإرسال الكثير من المرتزقة والخبراء والمعدات العسكرية إلى آخر السلسلة التي جعلتها رقما محوريا في المعادلة الليبية، وهو ما تحاول تكراره في دول أخرى وبأشكال متباينة.

الثاني: الاستفادة من القوى المحلية الكثيرة الرافضة لهذه التدخلات، وتمكينها من التصدّي لها مباشرة، وهي الوسيلة التي لجأت إليها أنقرة من خلال تبنّي تيارات مختلفة أوجدت بينها مصالح جعلتهم وكلاء سهلوا لها عمليات الاختراق، ففي كل الدول التي وطأتها بأقدامها نسجت علاقات متينة مع قوى داخلية، مكنتها من تثبيت وضعها.

الثالث: الاستفادة من القوى الدولية الرافضة لانتهاكات تركيا، مثل فرنسا واليونان وقبرص، لمحاصرتها دبلوماسيا، فدون أن تشعر أنقرة أن اللجنة العربية تستطيع تكبيدها خسائر حقيقية، سوف يظل دورها قاصرا، وربما يتحوّل إلى عبء، تستفيد منه الدول العربية المؤيدة لتدخلات تركيا، فالمرحلة المقبلة مرجّح أن تشهد شدا كبيرا على هذا الوتر، وما لم تمتلك اللجنة أدوات للتأثير سيتم وضعها في غرفة الانعاش.

في اعتقادي أنّ اللجنة تستطيع أن تتجنب الدخول في هذا المأزق، إذا واصلت دورها بالقوى التي ظهرت عليها في اجتماعها الأول وتفدي الأخطاء التي وقعت فيها لجان شكلّت من قبل لمواجهة تدخلات إيران في المنطقة، فأنقرة تسير على الدرب نفسه، مع خطورة زائدة، تكمن في قدرتها على ابتزاز قوى غربية متعددة.

العرب