مملكة البحرين هي ثاني دولة خليجية تدخل في اتفاق مع إسرائيل، لتطبيع العلاقات في أقل من 30 يوما، بعد جارتها الإمارات العربية المتحدة، التي بدأت الأسبوعين الماضيين في استقبال رحلات تجارية من تل أبيب، ضمن سلسلة تحولات متسارعة رحب بها نشطاء، وعارضها آخرون، وبين هذا وذاك، تأتي الأضواء من ترمب، وتذهب إليه بوصفه أكبر الكاسبين، ففي حين تمثل له هذه المتغيرات طوق النجاة الانتخابي من تبعات الأزمة الصحية العالمية، فإنها أيضاً تبعث رسالة مقلقة إلى إيران، العدو اللدود الذي كافحت واشنطن طيلة الأشهر الماضية أمام مجلس الأمن لتمديد حظر بيع الأسلحة بلا جدوى.
وبعد مكالمة هاتفية جمعت كلاً من ترمب وملك البحرين حمد بن عيسى ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، جاء انضمام المنامة إلى اتفاق إبراهيم مصحوباً بزخم أقل من الإعلان الإماراتي المماثل، إذ بدت حساسية التعاطي مع ملف التقارب العربي الإسرائيلي تقل شيئاً فشيئاً، بينما يبث جاريد كوشنر كبير مستشاري الرئيس الأميركي، تكهنات إضافية حول عزم دول أخرى ركوب قطار السلام.
وفي الوقت الذي اتخذت أبو ظبي والمنامة قرارات وصفها مسؤولو سياستيهما الخارجية بـ”السيادية” و “الواقعية”، لمواجهة التحديات المشتركة، واغتنام المصالح التجارية، طالبت القيادات الفلسطينية الجامعة العربية بإدانة الاتفاق الإماراتي، لكونه خروجا عن الاتفاقات الدولية والإقليمية، وهو الأمر الذي لم يحظَ بتأييد المنظومة المكونة من 22 دولة.
قبل وأثناء رئاسته، فتح الرئيس الأميركي النار على المنهجية التي سار عليها رؤساء قبله انجرفوا إلى نزاعات الشرق الأوسط عسكريا وديبلوماسياً، من دون أي عائد ملحوظ للولايات المتحدة، ودعا بشدة إلى تفكيك إرث سلفه باراك أوباما، إلى درجة استدعت الأخير إلى التشكيك بنضج الرئيس الجمهوري وكفاءته في إدارة المكتب البيضاوي، واعتبر سياساته مهددة لقيم المؤسسات الديمقراطية.
وعلى الرغم من أن التحولات الأخيرة التي يشهدها الشرق الأوسط من تقارب عربي إسرائيلي، ترعاه الولايات المتحدة، قد يراه البعض متعارضاً مع رؤية ترمب المناهضة لبعض شعارات المؤسسة الديمقراطية المطالبة بدور أميركي دولي أقوى، باعتباره مرهقاً لاقتصاد مواطنيه وغير مجد، فإن عملية السلام كانت ولازالت في صلب عناوين الحملة الانتخابية للرئيس الأميركي، وترسخت في أجندته الرئاسية لاحقاً.
وهكذا وُلدت “خطة السلام الأميركية” أو ما يُعرف بـ “صفقة القرن”، من منطلق مسعى أميركي لإحداث تغيير جذري في خريطة السلام في الشرق الأوسط، في حين كلف ترمب المهمة صهره المقرب جاريد كوشنر، وهو الجمهوري المحافظ على تقاليد الحزب، والخارج عن أساليبه بالنظر إلى ديناميكيته وتصريحاته المتوازنة وعمله الصامت.
وقبل أن يدخل الرئيس الخامس والأربعين البيت الأبيض، كان في ذهنه أن تأخراً أميركياً في دعم تل أبيب، حليفها الإستراتيجي على مر العقود، زاد عن حده، وهو ما عبر عنه صراحةً في حديث تزامن مع الإعلان عن قراره نقل سفارة بلاده في إسرائيل إلى القدس، حين قال إن واشنطن “فشلت لسنوات في الاعتراف بالواقع الواضح بأن عاصمة إسرائيل هي القدس”، بينما ظلت خطة ترمب مؤرقة للسلطة الفلسطينية، التي تندد بهذه الخطوات على الدوام باعتبارها خروجاً عن الحياد المطلوب للتوصل لحل سلام يضمن انسحاباً إسرائيلياً من الأراضي الفلسطينية، وإقامة دولة على حدود عام 1967، طبقاً لمبادرة السلام العربية.
إيران تباهي بقوتها العسكرية
على الرغم من الأصوات المعارضة التي تلقى دعماً إعلامياً هائلاً لمتهمي ترمب بسلب الولايات المتحدة زعامتها للعالم الحر، وهي أحاديث مزعجة بلا شك للرئيس الأميركي، فإن الأخير واصل نهجه الاستثنائي، وكما يُلقب الآن بأنه صانع صفقات سلام دعت البعض إلى اعتبار ترشيحه لجائزة نوبل، فهو أيضاً هادم لأخرى، مثل الاتفاق النووي مع إيران الذي انسحب منه عام 2018، بعدما وصفه بـ “الكارثي”، وعاد ليشدد العقوبات على طهران التي تعيش أصعب أوقاتها الاقتصادية مع الإدارة الحالية.
وبحكم أن إيران الغارقة في حرب بالوكالة مع إسرائيل لا تعترف بالدولة اليهودية، فقد جاء موقف الخارجية الإيرانية من القرار البحريني متوقعاً وغير مستغرب، إذ قالت إنه يجعل المنامة شريكة في السياسات الإسرائيلية التي تهدد الأمن في المنطقة. وفي تصريحات بثها التلفزيون الرسمي، توعدت طهران الحكومات المطبعة مع الكيان الصهيوني، بأن عليها تحمل عواقب إي إجراء يحدث في هذا المجال”، في حين نقلت “رويترز” عن الحرس الثوري، يوم السبت، بياناً نُشر في موقعه الإلكتروني، يهدد البحرين بأنها ستواجه “انتقاماً قاسياً” من شعبها ومن الفلسطينيين.
وفي مقابلة حديثة مع وكالة تسنيم الإيرانية، تحدث وزير الدفاع الإيراني أمير حاتمي عن قوة واستعداد قواته الدفاعية وقدراتها الصاروخية، وتطرق إلى نوعية وكمية الصواريخ الجديدة التي كُشِف عنها نهاية أغسطس (آب)، وأُطلق على نوعين منها اسمي زعيم فيلق القدس قاسم سليماني الذي لقي حتفه بغارة أميركية في يناير (كانون الثاني) الماضي، وأبو مهدي المهندس زعيم كتائب حزب الله العراقية الذي قتل في الضربة نفسها. وتعتبر الصحافة الإسرائيلية تحديد طهران مدى صواريخها ما بين 1000 كيلومتر، و1400 كيلومتر، متعمداً لإظهار قدرتها على ضرب إسرائيل، نظراً إلى أن حدودها من إيران لا تتجاوز 1000 كيلومتر.
إعادة توجيه بوصلة الغضب
بعد ساعات من إعلان انضمام البحرين إلى الإمارات في التطبيع مع إسرائيل، نشر المبعوث الأسبق للشرق الأوسط سابقاً، جيسون غرينبلات، مقالاً بعنوان “إنهاء الاحتلال الإيراني”، أشار فيه إلى أن حنق المتظاهرين في لبنان والعراق العام الماضي، لم يقتصر على التنديد بأوضاع بلدانهم فقط، إنما الوقوف أمام “النفوذ الإيراني المدمر” على حد وصفه، مستشهداً بالاحتجاجات الفلسطينية ضد حماس، والصراع السوري، والمظاهرات في إيران نفسها.
وكما تكشف بؤر التوتر هذه سخطاً عربياً وإيرانياً شعبياً تجاه النظام الإيراني، فإنها بحسب غرينبلات الذي عمل في إدارة ترمب لسنتين، تعكس صورة الشرق الأوسط المتغير، حيث لا يُوجه هذا الغضب المتصاعد إلى إسرائيل، وإنما ضد طهران، ويؤكد أطروحته هذه بتخطئة الفهم الغربي المتوارث سابقاً، أن الانقسام العربي الإسرائيلي هو نقطة ارتكاز الصراع في المنطقة.
من جانبها، تنفي طهران باستمرار الاتهامات بالتدخل في شؤون دول المنطقة، أو الإضرار بمصالحها، وكان وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، قال في وقت سابق إن بلاده مستعدة للمشاركة في أي عمل تكاملي يصب في مصلحة المنطقة، مرحباً بأي خطوة “تعيد الأمل إلى شعوبها وتأتي لها بالاستقرار والازدهار”.
ويعتبر المبعوث الأميركي الأسبق أن انضمام البحرين لاتفاق إبراهيم، لتكون الدولة الخليجية الثانية التي تطبع علاقاتها مع إسرائيل، خطوة ترسل “موجات صدمة إضافية” في منطقة تعارض فيها الدول العربية الاعتراف بتل أبيب، في حين يحطم هذا التحول العقبات بين إسرائيل والعرب، ويضع حداً لبطاقة الفيتو على حساب التقدم في المنطقة، الذي أعاقته السلطة الفلسطينية لعقود، على حد وصفه، ويتابع، قائلاً إن إعلان المنامة يؤكد “الطبيعة الزلزالية لكيفية تغير سياسات الشرق الأوسط مع إدراك مزيد من الدول مصالحها المشتركة والتهديد الحقيقي للأمن في المنطقة”.
ما الذي حرك اتفاق إبراهيم؟
في مقاله الذي نشرته شبكة “سي إن إن” الأميركية، زعم غرينبلات، أن الدافع الجزئي وراء اتفاق إبراهيم هو قلق عربي وإسرائيلي من تعطش إيران الثابت للهيمنة الإقليمية والأسلحة النووية، وأنه وعلى الرغم من تأكيد الإمارات أن الصفقة لم تكن موجهة لإيران على وجه الخصوص، فمن الواضح أن التهديد الإقليمي لإيران أصبح النقطة الأولى في المصلحة المشتركة لدولتين تقعان على طرفي نقيض في الشرق الأوسط.
تابع، “في الواقع، نتيجة للدخول في اتفاق إبراهيم، أصبحت الإمارات العربية المتحدة الآن هدفاً أكبر لإيران. يراقب باقي المنطقة وينتظر ليرى ما إذا كان بإمكانهم جلب دولهم إلى طاولة السلام والازدهار طويل الأمد. قد يتبع البعض القيادة الشجاعة لولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد، وقد يجد البعض الآخر ببساطة أنه من الآمن (أو على الأقل، أقل تعقيداً وألماً) البقاء على الهامش. لكن ذلك سيكون على حساب بلدانهم”.
ويؤكد إعلان البحرين، بحسب المسؤول الأميركي السابق، وجود مزيد من الدول التي تعترف بالقواسم المشتركة مع إسرائيل، وأنها أكثر وحدة للتحالف ضد إيران، وفقاً لافتراضات مراقبي المنطقة. ويضيف غرينبلات، “لقد أطلق الشعبان العربي والإيراني جرس إنذار، الإمارات، على سبيل المثال، لا تخشى الآن القول إن إيران، وليس إسرائيل، هي التهديد الإقليمي الحقيقي. يجب على دول المنطقة الأخرى أن تنضم إليهم لمواجهة هذا التهديد”.
السلام ولعبة الانتخابات
إدارة ترمب بدت ماضية لتنفيذ وعودها، بعدما أطاحت بعض سياسات الإدارة السابقة التي اُنتقدت بأنها متأرجحة وغير واضحة مع حلفائها، أبدت دعمها لشركائها في الخليج، وغادرت اتفاقات تستنزف الاقتصاد المحلي، وبادر ترمب بلقاء الزعيم الكوري الشمالي، كما أنه لم يتخذ موقفاً معادياً للغاية من روسيا، وظل إلى فترة ما قبل فيروس كورونا متصالحاً نوعاً ما مع بكين، ومرات واقفاً أمامها من أجل المصلحة الأميركية.
ورغم أن ترمب ظل يؤكد “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى”، شعاراً له، فإن إدارته في الواقع لم تتطرف في الانكفاء إلى الداخل بل اتجهت إلى إحداث تغييرات جذرية كان أبرزها ملف التقارب العربي الإسرائيلي، وعلى الرغم من أن السياسات الخارجية ليست مهمة لدى الناخب العادي مقارنة بملف الاقتصاد، فإن أهمية المصادقة على معاهدات كهذه في هذا الوقت، مهمة في السباق الانتخابي، لسببين، تقليل احتمال المواجهات العسكرية التي تستنزف الاقتصاد والأرواح، وعكس صورة الرئيس الذي ينفذ الوعود التي يطلقها في خطاباته.
التزام خليجي بقضية فلسطين
وعلى الرغم من أن أنه يُرجح أن يطغى الطابع الرسمي الرمزي على مراسم توقيع اتفاق إبراهيم الثلاثاء المقبل، بحضور وفدين رفيعين المستوى من دولتي الإمارات والبحرين، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، أوردت شبكة فوكس نيوز، أن الاتفاق قد يتبعه الإعلان عن صفقة أميركية لبيع طائرات F-35 الأكثر تقدما لأبو ظبي.
وترافق مع التقارب الخليجي الإسرائيلي المصحوب بتكهنات أميركية بانضمام دول عربية أخرى، تأكيد إماراتي وبحريني على أهمية تكثيف الجهود ومضاعفتها حملتها لوصول إلى حلٍ عادل، واعتبار السلام خيارا استراتيجيا لإنهاء النزاع الفلسطيني الإسرائيلي بشكل عادل وشامل وفقاً لقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية.
عيسى نهاري
اندبندت عربي