بعد انتصار الثورة الإيرانية عام 1979، اضطرت المجموعات المنتمية إلى النظام السابق إلى مغادرة إيران. والتزم من استطاع البقاء منهم في البلاد الصمت لتوفير حياته من حملة الإعدامات. ولم تمرّ فترة طويلة حتى أقدمت مجموعات إسلامية ثورية كانت تنشط في إطار حزب “الجمهورية الإسلامية”، على مصادرة النظام الجديد لصالحها.
هذه الإجراءات أرغمت بعض المجموعات المشاركة في الثورة ضد الشاه على عزل أنفسها عن النظام. وبعد حملة الإعدامات السياسية في السبعينيات، بخاصة عام 1987، لم يبقَ أي نشاط للمجموعات العلمانية، وظلت المجموعات المهيمنة على الساحة تتمحور حول الإيمان بمبدأ “ولاية الفقيه”.
على الرغم من أن المجموعات الإسلامية كانت قد مرت بخلافات خلال فترة حكم الخميني، لكن هذه الخلافات كانت تطوى بسرعة بسبب الأجواء التي فرضتها الحرب الإيرانية العراقية والأزمة التي كانت تشهدها البلاد. من ضمن الأحداث التي اتّسمت بالانسجام بين القوى الإسلامية، إجماعها على عزل الرئيس الأسبق أبو الحسن بني صدر وكذلك لم تدخر هذه المجموعات جهداً في إقصاء القوى الثورية الأخرى المشاركة في الحراك ضد الشاه.
لكن بعد وفاة الخميني ووصول علي خامنئي إلى الحكم، حصل انقسام بين القوى الإسلامية في البلاد وكان جزء منهم مؤمناً بالاقتصاد الحكومي وعرفوا باليسار وقدموا أنفسهم على أنهم من “السائرين على نهج الخميني”. وعلى نقيض هذه المجموعات، ظهر بينهم أتباع الملكية الخاصة وأطلقوا على أنفسهم اليمين.
عاشت المجموعتان فترة تمثّلت بالانسجام والوحدة خلال حكم الرئيس الأسبق أكبر هاشمي رفسنجاني لكن خلال ولايته الثانية، حدثت خلافات بين فريق في حكومته ومرشد الجمهورية علي خامنئي.
وكان رفسنجاني آنذاك يصنف على اليمين المناصر لخامنئي، حتى جاءت الانتخابات الرئاسية عام 1998، إذ شهد البلد اصطفافات جديدة: ترشح رئيس البرلمان الأسبق علي أكبر ناطق نوري وهو من المقربين لعلي خامنئي ومثّل تيار اليمين في البلاد وترشح محمد خاتمي المقرب من التيار اليساري في حقبة السبعينيات. تلك الانتخابات شهدت للمرة الأولى منافسة بين المنتمين لنظام الجمهورية الإسلامية، وعلى الرغم من ترشح آخرين في تلك الانتخابات، لم يحقّقوا نجاحاً ملحوظاً وظل التنافس بين ناطق نوري وخاتمي.
سعت القوى العسكرية والأمنية المقربة من خامنئي إلى الترويج للمرشح المقرب منه أي ناطق نوري وكانت غالبية المراقبين السياسيين رجّحت فوز ناطق نوري ولم يقتنع حتى المتفائلون من بين المناصرين لخاتمي أن يسمح مرشد الجمهورية بفوز أحد غير علي أكبر ناطق نوري.
لكن أظهرت الانتخابات نتيجة مفاجئة للجميع: حصد محمد خاتمي 20 مليون صوت وحصل أكبر ناطق نوري على 4 ملايين صوت.
مع فوز محمد خاتمي في الانتخابات، ترسّخ وجود تيار سياسي تمحور حوله وأطلق عليه “التيار الإصلاحي”. التفّ حول هذا التيار من كانوا يعرفون باليساريين و”السائرين على نهج الخميني” وتقربت إليهم بعض القوى العلمانية التي تبنّت نظرة معتدلة تجاه الإسلاميين على الرغم من أن بعضهم أخفى قناعاته تجاه الإسلاميين في تلك الحقبة.
وكان الشعار الأساسي لخاتمي هو “التنمية السياسية” وعمل لتوسيع الحريات السياسية والاجتماعية كما شهدت الصحف انفتاحاً أكثر وأصبح الشعب يسمع خطاباً جديداً. هذا التيار الإصلاحي أفلح في تشكيل أحزاب جديدة وإطلاق صحف متنوعة وأحدث انقلاباً في الأجواء الثقافية في البلاد. حدث ذلك في أجواء كان الشعب متعطّشاً لخطاب جديد.
واتخذ الإصلاحيون استراتيجية تمثلت بالهجوم على أكبر هاشمي رفسنجاني، إذ كان في تلك الفترة على رأس التيار اليميني، فكان من يهاجمه يحصد شعبية واسعة بين الشعب.
وظنّ الإصلاحيون أنه بعد حصولهم على 20 مليون صوت ودعم الرأي العام، يستطيعون من خلال الإصلاحات تغيير مسار الثورة الإسلامية وتحقيق مزيد من الحريات السياسية والاجتماعية. مع هذا، ظل جزء كبير منهم يتباهى بالانتماء الى الثورة والإيمان بمبادئ مؤسس النظام الخميني ولم يظهروا معارضة لثورة عام 1979.
وحقّق الإصلاحيون فوزاً آخر باكتساح غالبية مقاعد البرلمان وبهذا الفوز، هيمنوا على ركنين من أركان نظام الجمهورية الإيرانية: الحكومة والبرلمان.
لكنهم لم يضعوا في الحسبان السلطة التي يتمتّع بها المرشد علي خامنئي، فهو يحظى بسلطات واسعة ومن بين صلاحياته إلغاء أي قانون يقرّه مجلس الشورى.
وظل الرأي العام يطالب بتغييرات أسرع وأكثر تطرفاً. ودعم بعض الإصلاحيين هذه التوجهات وكان التيار المحافظ يطلق عليهم الإصلاحيين المتطرفين والتفّ مناصرو هذا التيار حول حزبي “المشاركة” و”مجاهدي الثورة الإسلامية”.
وشهد المجتمع الإيراني تطورات واسعة بسبب نشاط الصحف المختلفة ونشر كتب تنتقد النظام وانفتاح البلاد على الكثير من الوجوه الدولية المؤثرة والتحول الثقافي الذي عاشته البلاد. لذلك استشعرت النواة الصلبة المنتمية إلى خامنئي خطراً بسبب هذه التطورات وغالبية هؤلاء هم من المسؤولين الذين يعيّنهم مرشد الجمهورية.
راهن الإصلاحيون على الرأي العام بينما راهنت القوى المتشددة على دعم الحرس الثوري وقوات التعبئة والسلطة القضائية.
وحاول المقربون من المرشد الوقوف بوجه التغييرات الفكرية في المجتمع من خلال اغتيال عدد من المثقفين لإرسال رسائل إلى الإصلاحيين بالعدول عن المطالب التي سعوا إلى الوصول اليها.
وبعد عمليات القتل هذه التي أطلق عليها “سلسلة الاغتيالات السياسية”، بدأت حملة قمع مراكز الإصلاحيين في الجامعات واعتقل عدد من المقربين من الإصلاحيين، بخاصة تلك الحلقة التي مارست ضغوطاً ضد المرشد، ما أدى إلى فرض العزلة عليهم.
وتوصّل بعض الإصلاحيين الذين فشلوا في تحقيق مطالبهم إلى قناعة بأن “الحركة الإصلاحية” لم تحقّق نجاحاً بسبب طبيعة الدستور الإيراني وتمركز القوى بيد مرشد النظام علي خامنئي. ورأى هؤلاء أنه لا يمكن إيجاد تغيير في هيكل الحكومة، لذلك عمدوا إلى فضح العراقيل التي يضعها أنصار خامنئي أمامهم، فاعتقل كثيرون وأودعوا السجون.
في هذه الاثناء وبينما كان يستعد النواب الإصلاحيون لتحقيق فوز جديد في الانتخابات البرلمانية، سحب خامنئي أهلية الترشيح من غالبيتهم من خلال الصلاحيات التي يمنحها له الدستور، إذ يجب حصول النواب على أهلية الترشيح من مجلس صيانة الدستور التابع لخامنئي. فلم يمنح هذا المجلس صلاحية الترشيح للكثير من الإصلاحيين.
وبعد هذه الإجراءات، عزل عدد كبير منهم أنفسهم من التيار الإصلاحي ولم يظهر لهم أي نشاط، حتى جاءت الانتخابات الرئاسية عام 2009، فترشح مير حسين موسوي وأحدث حضوره في الساحة دوافع بين الإصلاحيين للعودة إلى الساحة.
ونظم أنصار التيار الإصلاحي في الداخل والخارج حملة واسعة لفوزه، وصفت بأنها “أكبر حملة تشهدها البلاد منذ الثورة” وأظهرت جميع الاستطلاعات فوز مير حسين موسوي في الانتخابات، لكن أعلن فجأة فوز المرشح المقرب من خامنئي، ما رافقه ردود فعل واسعة بين المواطنين وقادة التيار الإصلاحي وظل الشعب يرفض ما وصف بـ”التلاعب في نتائج الانتخابات”.
ونظّم الإصلاحيون أكبر تظاهرات احتجاجية لكن الحرس الثوري عمد إلى قمعها بالتعاون مع قوى الشرطة. وبعد هذه الإجراءات، لجأ كثيرون إلى الخارج ويعيش اليوم عشرات الآلاف منهم في الخارج وتخلّى كثيرون عن قناعاتهم السابقة، كما اعتقل عدد كبير منهم في الداخل وعانى آخرون مضايقات واسعة حتى بعد خروجهم من السجن.
يؤمن كبار المنتمين إلى التيار الإصلاحي اليوم بإيجاد تغييرات معمقة وهيكلية وتعتقد غالبيتهم بأن النظام السياسي والدستور الحالي لا يسمحان بأي تغيير ولا يمكن تحسين الأوضاع في البلاد بسبب هذه الظروف.
وفي مثل هذه الأحوال، ترسّخت المبادئ العلمانية لدى الكثير من الإصلاحيين السابقين وتحول عدد كبير من الإسلاميين منهم إلى العلمانية.
هذه التغييرات التي تهيّأت بسبب تجارب الحياة في الخارج، ساعدت في إيجاد قناعات سياسية شاملة لدى الإصلاحيين بضرورة إحداث تغييرات جذرية في نظام الحكم في إيران.
أمير سلطان زاده
اندبندت عربي