يعطي كلام آية الله الخميني حينما قبل بوقف إطلاق النار عبر رسالته عام 1988 إجابة وجيهة لموافقته على “تجرع سم” هزيمة بلاده خلال حرب الثماني سنوات مع العراق، والتي مني فيها الجيش الإيراني بخسائر هائلة، خصوصا بعد استعادة بغداد خلال عهد الرئيس الراحل صدام حسين لمدينة الفاو في جنوب البصرة من الاحتلال الإيراني.
واليوم مازالت ترفع طهران شعار “تحرير القدس يبدأ من كربلاء”، لكنها وصلت إلى نصف الطريق وهي تتواجد في بغداد وكربلاء عبر أحزابها وميليشياتها. ورغم ذلك فإن خفايا التغلغل الإيراني في العراق منذ ذلك الوقت وحتى الآن تعتبر مثيرة لفضول المتابعين والمحللين وخاصة في المنطقة العربية.
جذور القصة
تعود جذور القصة إلى أبريل 1980 حينما اتهم العراق، الجمهورية الإسلامية الوليدة في إيران بالتحريض على اعتداءات في بغداد وطالبها برفع يدها عن ثلاث جزر استراتيجية في مضيق هرمز تتنازعها والإمارات، لتصل الأمور إلى إلغاء بغداد اتفاقية الجزائر الموقعة في 1975 تتضمن تقاسم شط العرب.
ومنذ دخولها الحرب مع العراق قبل أربعين عاما، حولت إيران التوتر الحاد مع جارتها إلى نفوذ واسع، سهل لحلفائها الظفر بالسلطة لتصبح اليوم الشريك التجاري الأول لبغداد.
ولم يكن عزيز جبر، الأستاذ في جامعة المستنصرية في بغداد، والذي عاش سنوات الحرب التي بدأت في الـ22 من سبتمبر 1980 يتوقع حدوث هذا الأمر إطلاقا. وقال لوكالة الصحافة الفرنسية عن هذا التحوّل “من الصعب تخيله، لكنه حدث.. الأحزاب السياسية المرتبطة بإيران، بينها ما صنع في إيران، هي الممسكة بزمام السلطة” في العراق اليوم.
ولجأت إيران طوال سنوات الحرب، حيث تعد أطول حروب القرن العشرين وخلفت نحو مليون قتيل لتوفير ملاذ للجماعات المناهضة لنظام صدام، بينها شخصيات كردية وفي المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وجناحه العسكري فيلق بدر، اللذين تشكلا في إيران عام 1982.
ولم تنقطع طهران عن دعم هذه الأطراف حتى سقوط صدام بالغزو الدولي الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، ما يؤكد علاقتها القوية والأكثر قدما من تلك، التي كانت لدى واشنطن مع الأطراف العراقية التي تولت السلطة في العراق بعد ذلك.
وخلال السنوات الـ17 الماضية تسلقت شخصيات عراقية، لطالما تحالفت مع إيران، إلى أعلى هرم السلطة في العراق. وقضى ثلاثة رؤساء وزراء من بين ستة شغلوا هذا المنصب بعد العام 2003 وهم إبراهيم الجعفري ونوري المالكي وعادل عبدالمهدي، معظم فترة ثمانينات القرن الماضي في طهران.
كما تولى قادة بارزون في فيلق بدر مناصب أمنية رفيعة. ويشغل اليوم نيجيرفان ومسرور بارزاني، اللذان لجأت عائلاتهما إبان نظام صدام إلى إيران، منصبي رئيس ورئيس وزراء إقليم كردستان العراق.
وقال جبر في هذا الخصوص إن “لدى إيران سياسيين يتمتعون بالحذاقة”، موضحا “الأذرع التي صنعتها إيران لم تصنع لغرض الحرب فحسب بل لتستفيد منهم اليوم عندما تمكن هؤلاء من الوصول إلى السلطة” في العراق.
ولا تزال الحرب تحمل رمزية مهمة في إيران، حيث يتم تشبيه الفرق الطبية، التي تكافح فايروس كورونا المستجد هذا العام بـ”الشهداء” الذين لقوا حتفهم وهم يواجهون قوات صدام.
وعادة ما تستخدم المسيرة السنوية في إيران لتكريم ضحايا الحرب كمناسبة لاستعراض الأسلحة الجديدة بما في ذلك صواريخ باليستية، بينما يحتل قدامى المحاربين مناصب عسكرية عليا في طهران.
رئة اقتصادية
تتجاوز العلاقات حدود الجانب السياسي. وفيما مُنع التبادل التجاري في عهد صدام، كانت البضائع الإيرانية تهرب عبر الحدود المشتركة التي يصل طولها إلى 1600 كلم في ظل الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق في تسعينات القرن الماضي.
ويرى المحلل ومؤسس مركز بورس أند بازار التجاري إسفنديار باتمانجليج أن استئناف التجارة بشكل طبيعي بات ممكنا بعد سقوط صدام. وأوضح لوكالة الصحافة الفرنسية أن “الانخراط في التجارة بين دولتين متجاورتين أمر طبيعي، الحالة نفسها كانت بالنسبة لبولندا وألمانيا بعد أهوال الحرب العالمية الثانية”.
وعندما كان العراق يسعى لإعادة بناء نفسه بعد الدمار الذي تعرضت له البنى التحتية للبلاد إثر الغزو الذي قادته الولايات المتحدة، كانت مواد البناء الرخيصة التي تنتج في إيران الخيار الأفضل. كما اتسع التبادل التجاري ليشمل مواد غذائية وأدوية وسيارات ليصل اليوم لاستيراد الكهرباء.
ومن فاكهة المشمش وصولا إلى المسكّنات، تباع المنتجات الإيرانية في أنحاء العراق بأسعار أقل من المنتجات المحلية. وبالنتيجة، أصبح العراق اليوم أكبر سوق للمنتجات الإيرانية، غير الهيدروكربونية، ووصلت قيمة الصادرات الإيرانية إلى تسعة مليارات دولار خلال الفترة بين مارس 2019 ومارس الماضي، وفقا لغرفة تجارة طهران.
وتعهّد الرئيس الإيراني حسن روحاني في يوليو الماضي بمضاعفة هذا الرقم، لكن العقوبات الاقتصادية الأميركية الصارمة التي فرضت على بلاده منذ عامين أدت إلى تدهور الوضع الاقتصادي ودفعت طهران إلى الاعتماد بشكل متزايد على العراق الذي تحوّل إلى رئة اقتصادية للجمهورية الإسلامية.
ويقول باتمانجليج إن الشركات الإيرانية تبحث عن مكان مزدحم بالمستهلكين إذ لا يمكن زيادة المبيعات داخل إيران حاليا بسبب الأوضاع الصعبة، ولكن بات هذا النفوذ الإيراني السياسي والاقتصادي المتزايد مصدر إزعاج للعراقيين.
ولا يخفي عسكريون عراقيون سابقون من بينهم محمد عبدالأمير تذمرهم من السلطة السياسية في بلادهم، ويقولون إن العراقيين المشاركين بالحكومة سمحوا لإيران بهذه التدخلات “السافرة وسلموا البلد باقتصاده وزراعته وحتى أمنه”.
وتفشى الإحباط بشكل واسع في أوساط العراقيين وبلغ ذروته مع تصاعد الاحتجاجات المطلبية غير المسبوقة التي انطلقت في أكتوبر الماضي في بغداد وأغلب مدن جنوب البلاد ضد الطبقة السياسية التي تتهم بالفساد والفشل في إدارة البلاد والولاء لطهران.
وبعد أشهر، قتلت الولايات المتحدة الجنرال الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبومهدي المهندس في غارة نفذتها طائرة مسيرة قرب مطار بغداد.
ورأى محللون أن الهجوم قطع أهم حلقات النفوذ الإيراني في العراق، فسليماني، الذي بدأ مسيرته خلال الحرب العراقية الإيرانية ووصل إلى مناصب رفيعة، كان المشرف الرئيسي على ملف العراق. أما المهندس، فكان قياديا بارزا في فيلق بدر ومقربا من النظام الإيراني.
واليوم يتولى مصطفى الكاظمي رئاسة الوزراء، وقد أحاط نفسه بمستشارين يوصفون بأنهم أقل ولاء لإيران مقارنة بأسلافهم. لكن طهران لا تبدو قلقة، بحسب المحلل ريناد منصور من معهد شاتام هاوس، إذ أن الشبكة المتنوعة التي أسست لها في بداية حربها مع العراق ستساعدها على الصمود بوجه العاصفة الحالية.
ويؤكد منصور إن إيران زرعت حلفاء عبر شبكات سياسية رسمية وغير رسمية بينها ميليشيات وشركات وغير ذلك لتضمن أن يتشكل من العراق بلد يعرف إيران، ومعروف لديها.
وفي ظل تراجع نفوذها في مكتب رئاسة الوزراء، التفتت طهران إلى البرلمان العراقي والوزارات أيضا ويقول المحلل السياسي في معهد شاتام هاوس إن طهران تتساءل “أين نريد العراق بعد خمسين عاما”، في إشارة لتمسكها بنفوذها عبر الحدود.
صحيفة العرب