يميل المراقبون للشؤون الإيرانية، ولسببٍ وجيه، إلى تحليل الخطاب الذي يلقيه المرشد الأعلى علي خامنئي خلال الاجتماع السنوي لقيادات «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني، تحليلاً متأنياً. وكما هو الحال مع خطبه السنوية في عيد النوروز، غالباً ما يستخدم هذا الحدث للإشارة إلى الجماهير المحلية والأجنبية حول نهجه في الشؤون الدولية، ولعل الكلمات الأكثر شهرة هي التركيز على “المرونة البطولية” في خطابه عام 2013، متنبئأ بتوقيع طهران على الاتفاق النووي المؤقت مع «مجموعة الدول الخمس زائد واحد» بعد بضعة أسابيع من ذلك الخطاب، واعتماد «خطة العمل الشاملة المشتركة» في عام 2015. وكان خطاب العام الماضي قد تخذ نبرة مختلفة – فقد أعرب خامنئي عن ثقته في إمكانية تعامل النظام مع الضغط الأمريكي وحذّر من أن هدف واشنطن هو القضاء على الطابع الثوري للجمهورية الإسلامية وإجبارها على التوافق مع النظام العالمي الأمريكي. ومن خلال قيامه بذلك، استعرض بشكل أساسي أشهُر من التحدي الإيراني للقضايا الإقليمية والنووية.
لكن الوضع تغيّر مجدداً هذا العام. فإيران في خضم موجة ثالثة من انتشار فيروس كورونا مع تسجيلها آلاف الإصابات يومياً، ويبدو أن تجدّد تفشي الفيروس أقنع النظام بإلغاء خطاب خامنئي الذي كان من المقرر إلقاؤه شخصياً أمام تجمع كبير من عناصر «الحرس الثوري» الإيراني. وبدلاً من ذلك، اختار المرشد الأعلى إلقاء خطابه عن طريق الفيديو في 21 أيلول/سبتمبر ليكون الحدث الرئيسي في أسبوع “الدفاع المقدس” – أي الذكرى السنوية لبدء الحرب العراقية – الإيرانية، وهو خطاب يلقيه عادةً رئيس البلاد.
وعادةً ما تنقل خطابات خامنئي مباشرة ردّه على الأحداث الأخيرة التي تشهدها علاقات إيران مع الولايات المتحدة وسائر دول العالم. ومع ذلك، فقد امتنع في 21 أيلول/سبتمبر حتى عن ذكر آخر الأحداث وأبرزها، وهي إعلان واشنطن في 19 أيلول/سبتمبر عن معاودة فرض عقوبات الأمم المتحدة – ربما كان ذلك محاولته لتقليل الضغوط الداخلية التي قد ترغم النظام على الانتقام على هذه الخطوة. إلا أن الأسلوب الذي تحدّث به عن الحرب مع العراق قبل أربعة عقود أوضح أنه يريد تطبيق الدروس المستقاة من تلك الحرب على الوضع الراهن في إيران، ومواجهة الجهود المبذولة “لتشويه” الماضي.
تذكير الإيرانيين بأن المجتمع الدولي يريد الإطاحة بالجمهورية الإسلامية: أوضح خامنئي أن القوى العظمى العالمية خططت الحرب التي اندلعت بين 1980 و1988، ودعمت صدام حسين في محاولة للإطاحة بالنظام الثوري الجديد في إيران وإقامة حكومة ضعيفة و”تبعية”. ووفقاً له، لم تكن هناك كتلة “شرقية” أو “غربية” تقود ذلك الهدف – لقد كان جهداً مشتركاً لزعزعة استقرار إيران. على سبيل المثال، نَقل عن المرشد الأعلى السابق روح الله الخميني قوله إن “الولايات المتحدة كانت أسوأ من الاتحاد السوفيتي، والاتحاد السوفيتي أسوأ من الولايات المتحدة، وإنجلترا أسوأ من كليهما”. ومثل هذه الاقتباسات كانت على الأرجح أسلوب خامنئي للإشارة إلى أن الخلاف الإيراني الحالي ليس فقط مع واشنطن، وربما كان ينتقد ضمنياً القادة الأوروبيين لتصريحاتهم الأخيرة ضد انتهاك إيران لحقوق الإنسان.
التأكيد على أن المقاومة هي السبيل الوحيد لردع العدو: ذكّر خامنئي جمهوره بأن البلاد كانت قد تكبّدت خسائر متكررة قبل الحرب الإيرانية – العراقية، عندما تولّت سلالتا القاجار وبهلوي زمام السلطة. وجادل بإنه حتى عندما أعلنت إيران حيادها خلال الحرب العالمية الثانية، احتلها الحلفاء وقسموها، ولم يُظهر ونستون تشرشل وفرانكلين روزفلت وجوزيف ستالين أي احترام لسيادة الدولة أو قادتها خلال اجتماع القمة بينهم في طهران عام 1943. وصرّح أنه بخلاف تلك الخسائر والإذلال، أظهرت الحرب مع العراق للعدو “التكلفة الحقيقية للعدوان” ومنحت إيران أمناً ثابتاً. وقال: “حين تُظهر الأمة أنها تتمتع بالقوة والطاقة للدفاع عن نفسها”، فإن المعتدي “يدرك أنه ليس من مصلحته” مهاجمة الجمهورية الإسلامية. وفي رأيه كان الدرس واضحاً – إنّ العالم يفسر الاستقلال والمقاومة على أنها قوة واحترام.
السماح مع ذلك بتقديم تنازلات أيديولوجية: على الرغم من هذه النبرة المتحدّية، ذكّر خامنئي الجمهور أيضاً بالقرار الذي أتخذه سلفه بقبول وقف إطلاق النار مع العراق عام 1988. وفي ذلك الوقت، وصف الزعيم الراحل هذه الخطوة بأنها أقرب إلى “شرب كوب من السم”، ولكنه مع ذلك اجترعها “لمصلحة النظام”. وإذ أشاد خامنئي بذلك القرار باعتباره حكيماً وحذراً، يبدو أنه أراد بذلك الحفاظ على نهج النظام القديم والمتمثل بترك بعض المجال على الأقل للتسوية بشأن القضايا الرئيسية متى كانت قبضته على السلطة على المحك.
الإيعاز بالحيطة والطاعة في مواجهة فيروس كورونا: إدراكاً لخطورة التفشي الحالي للوباء في إيران، طالب خامنئي الجمهور بتجنّب المسيرات أو التجمعات الكبيرة خلال المهرجان القادم لمسيرة الأربعين الذي تحتفل به الطائفة الشيعية، وبدلاً من ذلك التعبير عن إخلاصهم في الوطن. وحثّهم على الالتزام بإرشادات الحكومة بشأن مكافحة الوباء، مشيراً إلى أن معدلات الوفيات الحالية تعادل حالة تتحطم فيها طائرات تقل 300 راكب كل يوم. وقد يكون هذا التشبيه إشارة إلى الإسقاط العرضي من قبل [القوات البحرية] الأمريكية للرحلة الجوية الإيرانية رقم 655 في عام 1988، وهي كارثة قُتل فيها 290 شخصاً – وربما كانت طريقته لتوجيه نقد متسرع آخر لسجل واشنطن في المنطقة بينما كان يجادل في الوقت نفسه بأن التحديات الخارجية من الولايات المتحدة صغيرة مقارنة بالتهديد المحلي المحتمل للوباء.
الإشارة إلى أن الصعوبات قد تؤدي إلى فرص جديدة وحلول مبتكرة: كما هو الحال في معظم خطاباته الكبرى، سعى خامنئي إلى تلطيف جميع هذه التحديات بنفحةٍ من الأمل. وذكر أن “«الدفاع المقدس» للأمة الإيرانية جلب البركات أيضاً”، وأشار إلى أن الحرب المريرة ضد [نظام] صدام ساعدت إيران على تطوير تقنيات وأسلحة جديدة، وترسيخ الجمهورية الإسلامية الوليدة، ورفع مستوى القادة الشباب البارزين مثل قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري» الإيراني الذي قُتل في وقت سابق من هذا العام. وأصر على أنه في حين أن “بعض الأمور، تبدو مستحيلة، [إلّا أنها] تصبح ممكنة إذا بذلنا الجهد اللازم”. وربما كان هذا الدرس – الذي تعلّمه بعد ثماني سنوات عصيبة من الحرب الوجودية مع العراق – هو الرسالة الرئيسية لآية الله في وقت تتزايد فيه الضغوط على إيران يوماً بعد يوم.
عومير كرمي
معهد واشنطن