لعل تعزيز الولايات المتحدة قواتها في سوريا، سيولّد في واشنطن نقاشاً بشأن الأهداف الأميركية في هذا البلد العربي الشرق أوسطي، المجاور لإسرائيل، وإذا ما كانت الولايات المتحدة تحتاج إلى الوجود هناك، وما سيكون لذلك من آثار طويلة المدى، أياً كان الرئيس المقبل للبلاد.
إلى جانب قرابة 500 جندي كانوا في المنطقة، أرسلت واشنطن قوات إضافية ومدرعات إلى شرق سوريا بعد سلسلة من الاحتكاكات مع القوات الروسية، بما في ذلك حادث تصادم مركبة أخيراً، أدى إلى إصابة 4 جنود أميركيين. وكشف المتحدث باسم القيادة المركزية الأميركية بيل أوربان عن أن بلاده أرسلت أنظمة رادار وضاعفت دوريات المقاتلات في سماء المنطقة لحماية قواتها وقوات التحالف. وأضاف أن “الولايات المتحدة لا تسعى إلى صراع مع أي دولة أخرى في سوريا، لكنها ستدافع عن قوات التحالف إذا لزم الأمر”.
وقال مسؤول أميركي رفيع لوكالة “أسوشييتد برس” إن “واشنطن أرسلت ست مدرعات برادلي قتالية، وأقل من 100 جندي إضافي إلى شرق سوريا”. وأردف المسؤول مشترطاً عدم الكشف عن هويته، أن “التعزيزات إشارة واضحة إلى روسيا لتجنب أي أعمال استفزازية وغير آمنة ضد الولايات المتحدة وحلفائها هناك”.
وفي أغسطس (آب) الماضي، كشفت واشنطن عن مواجهة بين دورية أمنية روتينية أميركية، وأخرى عسكرية روسية، قرب مدينة المالكية، شمال شرقي سوريا. وأشارت إلى أن المركبة الروسية صدمت مركبة أميركية مضادة للألغام، ما تسبّب في إصابة طاقمها، وأنه “بهدف تهدئة الوضع، غادرت الدورية الأميركية المنطقة”.
وفي مرات عدة سابقة، اعترضت دوريات أميركية قوافل روسية حاولت الوصول إلى حقول النفط في المنطقة.
استعراض قوة ورسائل
وطرحت خطوة واشنطن “استعراض القوة” بتعزيز وجودها العسكري في سوريا بعد مواجهة مع القوات الروسية، علامات استفهام في شأن الرسالة المبتغاة من هذا القرار الموجّهة إلى موسكو وأنقرة و طهران ودمشق، إذ تحاول واشنطن تعزيز دورها الرادع في المنطقة.
واعتبر البعض أن الخطوة الأميركية رسالة تحذير لروسيا بعدم التدخل أكثر في المناطق الشمالية الشرقية من سوريا، وعدم مضايقة قواتها المنتشرة في المنطقة، كما أن إرسال وحدات إضافية هو لتعزيز الموقف الدفاعي لتلك الموجودة حالياً في هذه المنطقة السورية. وفي المحصلة يصعب التأكد إذا كانت القوات الأميركية ستنجرّ إلى عمق أكبر في الحروب السورية، على الأقل طالما أن دونالد ترمب رئيساً.
وازدادت الخلافات بين قوات الدولتين بعد قرار الرئيس ترمب سحب 1000 جندي أميركي من سوريا، وبعد ذلك غيّر رأيه، ووافق على إبقاء قوة أصغر لحماية “النفط”. ودفعت إعادة انتشار القوات الأميركية اللاحقة، القوات الروسية إلى توسيع نطاق انتشارها في شمال شرقي سوريا، مما وضع القوتين في حالات اتصال واحتكاك وثيق ومتكرر.
من غير المرجح، حتى الآن، أن يؤثر نشر قوات أميركية إضافية في التفاهمات بين تركيا وروسيا أو بين موسكو وطهران، إذ تمتلك كل تلك الأطراف قوات عسكرية في المنطقة ذاتها، وكل طرف منها عينه على الآخر وعلى اللاعبين الآخرين.
انسحاب متكرر
كان في إمكان الولايات المتحدة القيام بأي عملية تريدها وتغيير موازين القوى قبل أن تتدخل روسيا في سوريا، لكنها لم تفعل، وقد تكون هناك عوامل أسهمت في تغاضي واشنطن عن التحولات السورية، لعل أبرزها، بحسب ما هو معلن، خشيتها من زيادة قوة الفصائل الجهادية وعدم رغبتها في تعريض أمن إسرائيل للخطر ومنع زيادة نفوذ إيران وتركيا، مع أنه لم يحدث أي استهداف أميركي للوجود الإيراني داخل الأراضي السورية طوال سنوات الحرب، فوحدها إسرائيل تستهدف المواقع الإيرانية في البلاد بين الحين والآخر، إضافة إلى رغبتها في الاحتفاظ بورقة وجود عدو، يمكنها اللعب بها في أي وقت.اليوم، يصعب الاعتقاد أن قرار واشنطن قبل أشهر، إبقاء عدد محدد من الجنود في سوريا، لمدة معيّنة، قرار استراتيجي، أو أنه نهاية المطاف. والمؤكد أن هناك قرارات وأمور أخرى. والأهم أن ذلك لم يكن قراراً متفقاً عليه بين صناع القرار في واشنطن، لا سيما وسط التضارب الذي بات لا يُخفى على أحد بين المؤسسات والإدارات الأميركية بمختلف مستوياتها.
وكان ترمب قد أعلن أنه سيعيد القوات الأميركية فور هزيمة تنظيم داعش. والواضح أن هناك أطرافاً عدة تريد انسحاباً أميركياً، منها واشنطن وروسيا وإلى حد ما تركيا، إضافة إلى السوريين الرافضين أي مشاريع انفصالية على أرضهم.
وأعلن الرئيس الأميركي قرار الانسحاب ثلاث مرات في ربيع عام 2018 وفي ديسمبر (كانون الأول) 2018، وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2019، لكن المسؤولين في مستويات أقل وفي إدارات مختلفة من البنتاغون إلى الاستخبارات إلى الكونغرس، ربما يريدون تقييد الانسحاب من خلال تضييق خيارات طريقة تنفيذه، أو على الأقل تأجيله وإطالة الفترة الزمنية، ربما في إطار التعويل على حدث ما يغير مجرى الأحداث، لكن المؤكد لن تكون تلك القرارات، الأخيرة أميركياً بخصوص سوريا.
قنبلة موقوتة
ليست سوريا فقط أو روسيا من يعاني من هذه الحالة، فأوروبا أيضاً تعمل على حل هذه المعادلة التي باتت تتسم بها القرارات الصادرة من واشنطن في السنوات الماضية.
تؤمن موسكو بأن واشنطن متحمسة لإنشاء “كيان انفصالي” في شمال شرقي سوريا، وهو كيان من شأنه أن يمزق الجمهورية العربية. ولكن، لا تبدو مهمة واشنطن سهلة، إذا ما أخذنا في الاعتبار رفض إقامة أي كيان انفصالي تحت أي مسميات ناعمة عن الأطراف الداخلية (الحكومة والمعارضة)، والخارجية المنخرطة في الملف (روسيا وتركيا). ويفترض أيضاً موقف الدول العربية حيال وحدة أراضي دولة عربية.
وكان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، قال خلال المقابلة التي أجرتها معه قناة “العربية”، ونشرها موقع الخارجية الروسية، مطلع الأسبوع الجاري، “في منطقة شرق الفرات، تنشط القوات الأميركية بصور غير قانونية مع القوات الانفصالية، وتلعب مع الأكراد بطريقة غير مسؤولة”. وهو تأكيد روسي واضح لرفض مشروع الحكم الذاتي.
هنا، تجدر الإشارة إلى أن الموقف الذي ستتخذه موسكو في خصوص شرق الفرات مهم للغاية، لأنه معني بمستقبل سوريا أولاً، على المدى القريب، وروسيا على المدى البعيد، فأي تقسيم مباشر لسوريا، أو غير مباشر تحت غطاء مسميات ناعمة (حكم ذاتي أو فيدرالية) بمثابة قنبلة موقوتة ستهدد لاحقاً الجوار الجغرافي وستصل ارتداداتها حتى القوقاز الروسي.
يقف التنوع السكاني شرق الفرات، عقبة كبرى أمام رغبة بعض الأطراف الأميركية، كما لا تساعد الخريطة الديموغرافية- الجغرافية أي أقلية على إقامة كيان انفصالي في المنطقة، فالأقليات هناك لا تتمتع بثقل سكاني إلا في مناطق محددة من الحسكة في تجمعات متناثرة متباعدة جغرافياً، حيث يشكل العرب أكثرية مطلقة في محافظتي الرقة ودير الزور، فيما تسجل المناطق الأخرى وجوداً للمكوّنات العربية والكردية والآشورية والسريانية والشيشانية والأرمنية والتركمانية.
أخيراً، إن تحقيق المطالب بحكم ذاتي يستوجب حضوراً عسكرياً أميركياً دائماً. وهو ما يتعارض مع توجه الإدارة الأميركية الحالية، التي تفضل الانسحاب من سوريا، حيث لا يوجد شيء سوى الرمال والدماء، وفق تعبير ترمب.
باسم الحاج جاسم
اندبندت عربي