ماذا يريد التشكيلان الشيعيان المعروفين باسم “الثنائي الشيعي”، بقيادة نبيه بري وحسن نصرالله، من لبنان واللبنانيين، وهل يريدان فعلاً أن يبقى هذا اللبنان، أم يريدان نسف الصيغة الحالية؟ أعلن الانتداب الفرنسي عام 1920 دولة لبنان الكبير، بحدوده الجغرافية القائمة، ثم ابتُدعت مع الاستقلال صيغة حكم تقوم على ما عُرف بميثاق 1943 الذي كرّس عملياً ثنائية السلطة بين الموارنة والسُّنة، لأسباب تاريخية وجيوسياسية، يطول ذكرها الآن، تعود إلى القوى الخارجية التي تتالت على حكم لبنان. وبما أنها ثنائية طائفية، فقد أدّت إلى تهميش الشيعة (والمذاهب الأخرى) الذين بالمقياس العددي كانوا في مرتبةٍ أدنى، ترافق هذا مع عاملين سلبيين، الحرمان الذي عاشه أهل الجنوب عقوداً، وعدوانية إسرائيل المتكررة عقوداً أيضاً، غير أن تلك الصيغة كرّست، في الوقت عينه، رئاسة مجلس النواب للشيعة، واحدة من الركائز الثلاث التي يقوم عليها النظام اللبناني، وهي الأهم في النظام الديموقراطي البرلماني، لكونها السلطة التشريعية التي تُناط بها مراقبة عمل السلطة التنفيذية. وكان أول رئيس للمجلس منذ 1943 صبري حمادة، لعدة دورات متتالية، غير أن القيادات والشخصيات الشيعية تعاملت مع رئاسة البرلمان باعتبارها موقع زعامة ونفوذ، تتلاءم مع ظروف تلك الحقبة وحساباتها وتقاليدها، التي لم يكن قد تبلور خلالها مفهوم الدولة بمعناه المؤسساتي، الساهرة على تطبيق القانون، والضامنة حقوق الجميع. ولكن إلى اليوم ليس هناك دولة، ولم يتبلور هذا المفهوم، لا بل إن ممارسة السلطة في هذا الموقع، وفي غيره من المواقع، أسوأ بكثير، وبشكل غير مسبوق، من سوء استخدام للسلطة والنفوذ والزبائنية والمحسوبية والفساد. وهذا نبيه برّي، القادم من المتراس، قائداً لمليشيا حركة أمل خلال الحرب اللبنانية، يتربع على عرش مجلس النواب منذ 28 سنة، وزعيماً للجنوب طوال الفترة نفسها، قبل أن تحمل التغيرات الإقليمية حزب الله إلى الواجهة، وتجعل منه المنافس الأقوى، لا بل المسيطر الأول دون منازع على ناصية القرار الشيعي، ولاحقاً اللبناني، من خلال لعب ورقة المقاومة ضد إسرائيل، وسحب البساط من تحت أقدام الشيوعيين الذين كانوا السباقين إلى مقاومة الاحتلال، بفضل هيمنة النظام البعثي الأسدي، ثم إيران الملالي على الساحة اللبنانية.
لم يكن حزب الله معنياً بقيام الدولة، ولا حتى بلبنان كياناً، وكان خطابه وهدفه المعلن، منذ انطلاقته في أوائل الثمانينيات، إقامة الجمهورية الإسلامية
لم يكن حزب الله معنياً بقيام الدولة، ولا حتى بلبنان كياناً، وكان خطابه وهدفه المعلن، منذ انطلاقته في أوائل الثمانينيات، إقامة الجمهورية الإسلامية، وهو يقدّم نفسه، وفي العلم الذي يرفعه أنه “المقاومة الإسلامية في لبنان”، وليس اللبنانية. وكان يجاهر حتى بعزمه على استعادة أو إعادة الشيعة إلى القرى المسيحية في مناطق كسروان المارونية شبه الصافية اليوم، التي برأيه اضطروا إلى النزوح منها. وهذا ما شكّل أول نقزة لدى المسيحيين الذين يعتبرون أنفسهم أولياء جبل لبنان المسيحي، وأصحاب فكرة لبنان الكيان، على الرغم من أن حزب الله لم يكن يشكل بعد قوة ذات وزن وشأن، حتى في الوسط الشيعي. ولم يكن يعير أي اهتمام للشأن الداخلي اللبناني، ويحرص على تأكيد أنه غير معنيّ بما يجري داخل السلطة، وبين الأطراف المشاركة فيها، وينظر إلى الآخرين نظرة ازدراء! ثم جاءت الحرب العراقية الإيرانية لتفتح باب لبنان على مصراعيه أمام التغلغل الإيراني، بعد أن مدّ حافظ الأسد البعثي (العلوي) جسوره نحو آية الله الخميني الشيعي، ووقف إلى جانبه في الحرب مع العراق ضد صدام حسين رفيقه اللدود. وقرّرت طهران ودمشق أن يبدأ حزب الله زحفه التدريجي للتوغل إلى داخل مؤسسات الدولة، وشارك أول مرة عام 1992 بالانتخابات النيابية في لوائح معلبة مشتركة مع حركة أمل، وحصل على ثمانية مقاعد موزعة بين الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت. ولم يمنعه هذا من الاستمرار في البقاء خارج لعبة السلطة، وابتعاده عن المشاركة في الحكومة، على الرغم من التمترس الدائم لحليفه برّي فيها، بحجة التفرّغ للمقاومة، وانصرافه، منذ تلك السنوات، إلى وضع مداميك دويلته. وقد دأب خطاب حزب الله وسلوكه، وكذا زعيمه نصرالله، على التوجه في الاتجاه المعاكس تماما لنهج الإمام موسى الصدر الذي ركز، في خطابه وسلوكه، على وحدة اللبنانيين وعلى العيش المشترك، وعلى الحوار ببن المسلمين والمسيحيين. وكان يشدّد على ضرورة انخراط الشيعة في الدولة والعمل ضمن المؤسسات، قبل أن يتخذ موقفاً معارضاً للحرب، ويختلف مع النظام السوري، وتجري من بعدها تصفيته في ليبيا.
أما حزب الله، فقد سارع، بعد اغتيال رفيق الحريري عام 2005، واضطرار بشار الأسد إلى سحب الجيش السوري من لبنان، إلى “ملء الفراغ”، عبر مشاركته في تلك السنة لأول مرة في الحكومة، عشية الانتخابات النيابية، ليحتفظ بمقاعده خوفاً من أن يسيطر فريق ما كان يعرف بقوى 14 آذار الذي اكتسح الانتخابات على الحكومة والقرار السياسي، وينهي أحلام الدويلة. إلا أن هذا الفريق الذي علّق معظم اللبنانيين آمالهم عليه، بعد انتفاضة الاستقلال المليونية، غرق في أوحال السلطة من صفقات وفضائح وفساد على أنواعه، وذهب إلى تسوية مع نصرالله قضت بانتخاب ميشال عون رئيساً، ووضع يد حزب الله على القرار السياسي، ما دفع نصرالله إلى الوقوف مدافعاً بشراسة عن النظام، عندما اندلعت انتفاضة أكتوبر 2019 ضد السلطة السياسية بأكملها (“كلن يعني كلن”). وهكذا تحول الرئيس المسيحي “القوي”، والمتاجر بحقوق المسيحيين، إلى غطاء مسيحي شرعي لكل ما ارتكبه حزب الله في السنوات الأخيرة.
عطّل الثنائي الشيعي، نصرالله وبري، تشكيل الحكومة، بإصراره على الحصول على وزارة المال، وتكريسها للطائفة الشيعية ضمانة لدورها ولموقعها في السلطة
واليوم، وفي خضمّ الكباش القائم حول تشكيل حكومة أرادها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عبر مبادرته للإنقاذ والإصلاح قبل سقوط الهيكل على رؤوس الجميع، عطّل الثنائي الشيعي، نصرالله وبري، تشكيل الحكومة، بإصراره على الحصول على وزارة المال، وتكريسها للطائفة الشيعية ضمانة لدورها ولموقعها في السلطة! سلوك مضحك ومستفز في آن واحد لعقول اللبنانيين فعلاً! يريدون السيطرة على القرار المالي، بعد أن ضمنوا السيطرة على القرار السياسي، وهل سيطرة السلاح لا تكفي؟ هذا السلوك الذي عرّى الشريك المسيحي، وأثار نقمة عارمة في أوساط الشارع المسيحي، وخصوصاً في صفوف مناصري التيار العوني الذين أصيبوا بالذهول والإحباط من حليفهم الشيعي، بدأ يوقظ ذاكرة الحرب الأليمة والكوابيس التي عاشها المسيحيون الذين كانوا وما زالوا يعتقدون أن الهدف كان يومها “أسلمة” لبنان، وتحويله إلى دولة بديلة للفلسطينيين.
إن منع أي محاولة للإصلاح ودفع البلد إلى حافة الانهيار الاقتصادي، ومنع قيام الدولة، وتدمير مصالح الناس الحيوية ومنازلها وزرع الرعب في حياتها اليومية وفي نفوسها، يدفع كثيرين إلى الهجرة، وها هم المسيحيون يتدفقون بالمئات والآلاف نحو السفارات كل أسبوع، فهل بدأت حملة التطهير والتهجير؟ وهل هذا ما يريده ويسعى إليه حزب الله؟!
سعد كيوان
العربي الجديد