في ربيع 2004، كنت مستشاراً لوفد من الجاليات اللبنانية في العالم كان يزور نيويورك ليطالب بقرار دولي يدعو النظام في دمشق بسحب قواته من لبنان بعد احتلال مباشر لمدة 15 عاماً. واصطدم الوفد بالمجابهة الدولية بين إدارة الرئيس الأميركي حينها جورج بوش ونظيره الفرنسي جاك شيراك، وكانا قد اختلفا بعمق حول الغزو الأميركي للعراق. وكانت المصالح الاقتصادية الفرنسية والألمانية في بغداد قد منعت باريس وبرلين من الانضمام إلى واشنطن ولندن ومدريد في حملتهم لإسقاط صدام حسين.
وعندما اجتمع الوفد الاغترابي مع الإدارة الإميركية فهمنا أنه لا يمكن الوصول إلى قرار في مجلس الأمن من دون موافقة باريس. فاقترحتُ أن نجتمع بالفرنسيين ونسعى لتوافق على لبنان. وهكذا حصل، والتفاصيل في المذكرات. عندها وحّد بوش وشيراك موقفهما في موضوع لبنان، وكانت النتجة إصدار القرار 1559 وبعد ذلك إخراج القوات السورية من لبنان عام 2005. هذا مثل تاريخي على ضرورة وحدة الموقف الأميركي – الفرنسي ليس فقط تجاه لبنان بل تجاه معظم الأزمات الشرق أوسطية.
الملفات الساخنة والمتفجرة الآن في شرق البحر المتوسط وجنوبه جميعها تحتاج إلى توافق إن لم يكن تفاهم بين واشنطن وباريس ضمن حلف الأطلسي. طبعاً لأميركا حجم أكبر وقدرات أوسع على الأصعدة العسكرية والمالية واللوجستية، وكذلك على صعيد الانتشار الاستراتيجي عالمياً. إلا أن لفرنسا أدوار تكميلية بإمكانها أن تلعبها إلى جانب الولايات المتحدة، منها ما يتعلق بتعبئة ألمانيا وأوروبا الغربية إما داخل مجلس الأمن وحتى أحياناً على الأرض في إفريقيا وليبيا ولبنان.
نرى واشنطن تواجه الانفلاش الإيراني في المنطقة من العراق إلى البحر المتوسط، بالإضافة إلى الخليج. ربما المشاركة الفرنسية المباشرة ليست ضرورية إلا أن التأييد الفرنسي في مجلس الأمن حيوي، وهذا ما تحتاج إليه أميركا، ولا توفره باريس وشركاؤها الأوروبيين بسبب التزامهم بالاتفاق النووي الإيراني. وقد رأينا كيف أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لم تتمكن من انتزاع قرار أممي في نيويورك لإعادة عقوبات “سناب باك” على طهران من دون ضغط أوروبا على روسيا.
بالمقابل شاهدنا جهود فرنسا الدبلوماسية تجاه الأزمة في لبنان ومحاولات الرئيس إيمانويل ماكرون ليضغط على حزب الله لحمله على تغيير سلوكه تجاه آلية السلطة في بيروت. و الواضح أنه من دون ثقل الولايات المتحدة لن يكون هنالك أي تغيير استراتيجي في لبنان، لا على الأرض ولا في مجلس الأمن. إن معادلة القرار 1559، التي شاركنا في هندسته جزئياً، هي المعادلة الثابتة حتى إشعار آخر. واشنطن وباريس سويةً لكي تنجح.
وكذلك وقفت فرنسا بقوة أمام الاندفاع العسكري التركي في ليبيا، إلى جانب الجيش الوطني الليبي والتحالف العربي. ووقفت مصر والإمارات إلى جانب باريس لمواجهة الميلشيات الإخوانية. كما نشرت فرنسا واليونان قطعهما البحرية في المتوسط لتمنع بحرية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من سيطرة مطلقة في بحر إيجة وشرقي المتوسط. إلا أن كل التعبئة الفرنسية العسكرية والدبلوماسية لم توقف التمدد التركي من قبرص إلى طرابلس الغرب لأن أميركا لم تضع ثقلها في الميزان، ولم تتصد للتحرك التركي على أي من الجبهات. بل بحسب البعض، فاللوبي الإخواني في وشنطن هو الذي يضعف التفاهمات الأميركية – الفرنسية عبرالمتوسط والشرق الأوسط.
لذا، منطقياً، وكما اختبرتُ شخصياً في 2004، فان هذه الملفات تحتاج إلى تفاهم فرنسي أميركي كبير وعميق. فإذا حصل، سيأتي بالإوروبيين إلى هذا المعادلة ويأتى بالتحالف العربي أيضاً، بالإضافة إلى إسرائيل والحلف الاطلسي، إلى محور فولاذي يضع حداُ للانفلاش الإيراني والإخواني في الشرق الأوسط الكبير والمتوسط.
إلا أن هكذا معادلة جديدة استراتيجية بين أميركا وفرنسا ثمنها كبير للبلدين. فهي تتطلب من فرنسا أن تتخلى عن الاتفاق النووي الأيراني مع كل ما يدرّ من مداخيل، ويعني أيضاً أنه ينبغي على الولايات المتحدة أن تتخلى عن تأثير اللوبي الإخواني الاقليمي في واشنطن. أميركا تترك المحور القطري، وفرنسا تترك المحور الإيراني ويتم استبدالهما بتحالف أميركي فرنسي يقود المنظومات الأوروبية والعربية والشرق أوسطية ضد الارهاب والتطرف. وهو ما دعونا إليه في عام 2008 في كتابي “المواجهة” قبل أن تأتي إدارة باراك حسين أوباما إلى البيت الابيض، وتُجمد هكذا تصور لثمانية سنوات.
وليد فارس
اندبندت عربي