منظمة غاز شرق المتوسط.. الدلالات والرسائل

منظمة غاز شرق المتوسط.. الدلالات والرسائل

لا يمكن بأي شكل من الأشكال قراءة تحويل “منتدى غاز شرق المتوسط” إلى منظمة إقليمية حكومية سميت اصطلاحاً EMGO “منظمة غاز شرق المتوسط” إلا من ناحية جيوسياسية أكثر منها طاقوية، وذلك في ظل الدرجة العالية من الضبابية وحالة عدم الاستقرار التي تعاني منها المنطقة نتيجة الخلافات العميقة والصراعات المزمنة بين دولها بسبب مشاكل ترسيم الحدود البحرية من جهة، وتداخل المناطق الاقتصادية للدول المتجاورة والمتشاطئة من جهة أخرى.

إذ يأتي توقيع الدول الست (مصر، “إسرائيل”، اليونان، قبرص اليونانية ، والأردن، وإيطاليا) على ميثاق تحويل المنتدى إلى “منظمة غاز شرق المتوسط” في هذا الوقت بالذات ليحمل الكثير من الدلالات والرسائل التي تتخطى الأهداف الاقتصادية والتنموية التي أعلنت عنها الدول الست التي وقعت على ميثاق تأسيس هذه المنظمة، خاصةً وأن هذه الدول استثنت من عضويتيها العديد من دول المنطقة ذات الأهمية والتأثير كـ تركيا (صاحبة أطول ساحل في البحر المتوسط) وسورية وليبيا ولبنان، في حين ضمت إلى عضويتها دولاً من خارج المنطقة (شرق المتوسط) كالأردن وإيطاليا، إلى جانب فرنسا التي تسعى للحصول على عضوية في المنظمة، والإمارات العربية المتحدة التي دعت “إسرائيل” إلى ضمها للمنظمة أيضاً.

فمن جهة يمكن قراءة الموضوع من ناحية محاولة دول هذه المنظمة، وتحديداً مصر واليونان وقبرص، ربط مصالحهم بمصالح بعض القوى الإقليمية والدولية كفرنسا والولايات المتحدة من خلال ضمها إلى المنظمة وبالتالي الاستقواء بها ضد تركيا في حال نشوب أي خلافات أو نزاعات حول ثروات المنطقة، إلى جانب محاولة إضفاء الشرعية على الاتفاقيات الثنائية لترسيم الحدود البحرية التي تم توقيعها بينها في الفترة الأخيرة والتي كان آخرها توقيع اتفاق لترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان وبين اليونان وإيطاليا ومحاولة إنشاء تحالف سياسي للضغط على تركيا في خضم النزاع على حقوق التنقيب في الحوض الشرقي للمتوسط. وبالتالي يمكن القول أنّ هذه الدول تسعى للوصول إلى مرحلة ردع تركيا من خلال الاستقواء بالدورين الأوروبي والأمريكي الداعمين للمنظمة ومن ثم عزلها سياسياً واقتصادياً في منطقة ضيقة.

ومن جهة أخرى يمكن قراءة الموضوع في سياق تعزيز عملية “التطبيع” مع “إسرائيل” التي تحاول العديد من الدول العربية إبراز حسناتها وانعكاساتها الاقتصادية والتنموية على دول المنطقة من خلال القبول بالدور الإسرائيلي في المنطقة وتبادل الخبرات والتعاون في جميع المجالات دون أي عوائق، الأمر الذي يعطي “إسرائيل” عمقاً استراتيجياً واقتصادياً هامّاَ في المنطقة ويحولها إلى مركز تجاري وإقليمي استراتيجي من خلال توقيع اتفاقيات تجارية وتفعيل حركة الاستيراد والتصدير بينها وبين الدول العربية بحجج الانضمام إلى المنتدى أو بمبررات اقتصادية فارغة على حساب القضية الفلسطينية، وربما تكون هذه أحد أهم الأسباب الذي دفعت السلطة الفلسطينية لعدم حضور مراسم توقيع ميثاق التأسيس في القاهرة على الرغم من أن فلسطين تعتبر من الدول المؤسسة لـ “منتدى غاز شرق المتوسط” عام 2019، وكذلك تعتبر أحد الأسباب التي تدفع لبنان إلى عدم الانضمام إلى المنظمة بحكم وجود “إسرائيل” فيها وكذلك بسبب الخلافات العميقة بينهما بسبب سرقة “إسرائيل” للغاز اللبناني في المناطق البحرية المتنازع عليها، في ظل عدم توصّل الطرفين إلى اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بينهما.

وبالتالي، فإن حدث تحويل “منتدى غاز شرق المتوسط” من مجرّد منصة حوار وتنسيق بين مجموعة من الدول إلى منظمة إقليمية لا يمكن أن يكون حدثاً عابراً، وخاصةً في هذا التوقيت الذي يعتبر بالغ الأهمية، فهذه الخطوة جاءت في سياق صراع إقليمي كبير حول ترسيم الحدود البحرية وتحديد المناطق الاقتصادية الخالصة للدول، نتج عنه تصعيداً كبيراً بين تركيا من جهة، واليونان وقبرص اليونانية ومن ورائهما الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، وصل إلى حافة المواجهة العسكرية بين تركيا واليونان في وقت سابق من الشهر الماضي.

فمن شأن التغييرات الكبيرة في منطقة شرق المتوسط أن تؤثر بشدّة في موازين القوى في المنطقة وفي طبيعة الصراعات والشراكات الحاصة، وقد تكون عاملاً مغيراً لقواعد اللعبة قد تقود إلى مزيد من تعقيد الأوضاع وتأجيج الصراعات. لذا من المتوقع وفي ضوء القانون الفيزيائي الشهير “لكل فعل رد فعل” أن يقود التغيير في الإطار التنظيمي والقانوني لـ “منتدى غاز شرق المتوسط” إلى تغييرات كثيرة في معادلات المنطقة، وخاصةً من قبل تركيا التي تسعى جاهدة للحصول على حقوقها وحقوق قبرص الشمالية في ثروات المنطقة، وقد تكون أحد هذه الأمور التي قد تلجأ لها تركيا لمواجهة هذه التغييرات هو تشكيل منصّة جديدة تضم مجموعة من دول المنطقة التي لم تنضم إلى “منظمة غاز شرق المتوسط” كـ قبرص الشمالية وليبيا ولبنان وفلسطين وقد تضم لها روسيا وسورية وبعض الدول العربية التي لا ترغب بالتطبيع مع “إسرائيل”.

بالمحصلة يمكن القول أنّه وعلى الرغم من جدّية تطوير الإطار التنظيمي والقانوني لـ “منتدى غاز شرق المتوسط” فإن هذا الأمر سيزيد من درجة تسييس الجدل حول الغاز في المنطقة، فالتعاطي مع أمن المنطقة لضمان الإفادة الممكنة من موارد الغاز المكتشفة وجعله رافعة اقتصادية لهذه الدول ولعب دور مستقبلي في ملف الطاقة يستدعي إطاراً أمنياً وسياسياً أكثر تكاملاً وقدرة على تطويق الصراع الجيو ـ سياسي المحتدم في منطقة شرق المتوسط، والذي بإمكانه التحول إلى صدام عسكري عنيف في أي لحظة.

د.بشار نرش

الجزيرة