فاجأ البنك المركزي التركي الأوساط الاقتصادية التركية بإعلانه رفع أسعار الفائدة، وهو القرار الذي طالما اعتبره الرئيس رجب طيب أردوغان من قبل “أم وأب الشياطين” الاقتصادية للدول لكن ها هو يصافح الشيطان قسرا.
أنقرة – أعلن البنك المركزي التركي عن رفع أسعار الفائدة متجاوزا توجيها رئاسيا صريحا، بعد أن تهاوت الليرة بشكل استثنائي خلال الأيام الماضية، وصار واضحا أن “منهج أردوغان الاقتصادي” غير التقليدي لا علاقة له بالأدوات المالية والاقتصادية التي تستخدمها الدول في ضبط السيولة وأسعار العملة والميزان التجاري.
وحتى من قبل إعلان وزير المالية التركي براءت البيرق عن مشروعه الجديد لإصلاح الاقتصاد التركي، كان الرئيس رجب طيب أردوغان قد صمت بشكل لافت أمام تحرك البنك المركزي لرفع أسعار الفائدة.
وكان أردوغان يقول إن أسعار الفائدة الأعلى تضخمية، تتعارض مع أسس التفكير الاقتصادي التقليدي. وقد أدت سياساته إلى اندلاع أزمة العملة قبل عامين.
وهذه الخطوة الاستباقية تسعى إلى منع انخفاض قيمة العملة في البلاد من التحول إلى أزمة مصرفية أو ميزان مدفوعات أكبر وأزمة ديون خارجية.
ويعود الانخفاض المطرد في قيمة العملة المحلية، الليرة، إلى حد كبير إلى الاختلالات الاقتصادية التي عجلها بشكل جزئي معدل فائدة حقيقي سلبي، وطفرة بناء مدعومة بالائتمان، واحتياجات تمويل خارجية كبيرة، فضلاً عن افتقار البنك المركزي التركي إلى المصداقية وقرب استنفاد احتياطيات أنقرة من العملات الأجنبية.
ويرى خبراء أن السياسة النقدية التي فرضها أردوغان قامت على التناقضات والنفخ في الفراغ ما تسبب في أزمة قاسية لليرة.
وانتهج أردوغان طيلة السنوات الماضية سياسة المغامرة بخفض أسعار الفائدة فارضا إرادته على البنك المركزي بإجراء خفض كبير في أسعار الفائدة، ما تعارض مع الوضع الهش للتوازنات المالية والاقتصادية، وانعكس بسرعة ووضوح في اتجاه الانحدار تلو الانحدار لليرة.
وسجلت الليرة أدنى مستوياتها التاريخية مقابل كل من الدولار واليورو في 23 سبتمبر، حيث انخفضت قيمتها بنحو 15 في المئة وأكثر من 21 في المئة على التوالي منذ أواخر مايو.
وتمر تركيا بأزمة عملتها الثانية خلال أكثر من عامين بقليل. وعلى عكس الأزمات السابقة من ضعف العملة، فإن احتياطيات تركيا من العملات الأجنبية قد استُنفدت ولم تستجب صادراتها لانخفاض سعر الصرف.
ويرى خبراء أنه على أنقرة إحداث تغيير كبير في السياسة النقدية لكسر انخفاض سعر صرف الليرة، نظرًا لأن تركيا من بين اقتصادات الأسواق الناشئة الأكثر ضعفاً في العالم.
وأشارت أحدث البيانات المتاحة من يوليو إلى أن صافي احتياطيات تركيا كان سالبًا يقف عند – 38 مليار دولار، مع إجمالي متطلبات التمويل الخارجي (عجز الحساب الجاري زائد الدين الخارجي المستحق في 12 شهرًا القادمة) بما يعادل أكثر من 25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي (أو أكثر من 200 مليار دولار).
وتراجع استعداد المستثمرين الدوليين لتمويل هذه الاحتياجات بشكل حاد على أساس السياسات النقدية غير التقليدية لأنقرة، والتي تضمنت خفض أسعار الفائدة حتى في مواجهة التضخم المرتفع نسبيًا.
وتفيد تقاريرالبنك المركزي التركي بأن إجمالي الأصول الاحتياطية تبلغ 90.3 مليار دولار، ولكن هذا يشمل 45 مليار دولار من الذهب غير السائل ولا يمكن استخدامه لتسوية الديون.
ومع ذلك، هناك نحو 83.1 مليار دولار صافي الخصومات التي تشمل مقايضات العملات الأجنبية مع البنوك المحلية. هذه الأخيرة هي في الأساس احتياطيات مقترضة من البنوك المحلية.
وكان أردوغان قد عبّر في مناسبات عديدة عن قناعته بأن ارتفاع أسعار الفائدة يتسبب في التضخم.
معدل فائدة حقيقي سلبي وطفرة بناء مدعومة بالائتمان ضربا ما بقي من مصداقية البنك المركزي التركي
وأكد سابقا أن إقالة محافظ البنك المركزي السابق كانت بسبب عدم “إتباع التعليمات”. وقال إن صناع السياسة النقدية سيقدمون دعما أقوى لبرنامج الحكومة الاقتصادي غير أن هذه السياسة أودت بتركيا إلى دوامة المخاطر المالية.
ويشير محللون إلى أن لجوء المركزي التركي نظريًا إلى استخدام إجمالي الاحتياطيات لتلبية الاحتياجات الطارئة، على الرغم من تخلفه عن سداد الالتزامات، وخاصة مقايضات العملات الأجنبية، سيغرق القطاع المصرفي التركي في أزمة أكبر.
ولا تبلّغ تركيا عن بيانات التدخل في العملات الأجنبية، ولكن يُعتقد أنها باعت حوالي 30 مليار دولار في الأسواق من مارس إلى يوليو لإبطاء انخفاض الليرة، مع احتمال أن يصل إجمالي التدخل لعام 2020 إلى 80 مليار دولار.
وأدى تباطؤ النمو الاقتصادي في تركيا وارتفاع التضخم وضعف القطاع المصرفي إلى وضع أنقرة تحت ضغط سياسي متزايد، الأمر الذي ربما دفع البنك المركزي التركي لمحاولة زيادة تكلفة الأموال للبنوك التجارية كخيار خلفي للتشديد النقدي.
ومع ذلك، فإن رفع سعر الفائدة الجديد يزيل الصورة المعروفة عن البنك المركزي بأنه يتبع سياسة التيسير، بعد أن زاد من سعر الفائدة المعياري بمقدار 200 نقطة أساس من 8.25 في المئة إلى 10.25 في المئة في 24 سبتمبر، وشدد البنك المركزي على السيولة في اليوم التالي للإعلان.
ويعكس هذا بشكل جزئي التخفيضات التي بلغ مجموعها 1575 نقطة أساس في الفترة بين يوليو 2019 ومايو 2020، على الرغم من معدل التضخم الذي كان متوسطه أقل بقليل من 12 في المئة في عام 2020.
وقد يكون معدل التضخم أيضًا غير مبلّغ عنه نظرًا لأن ما يقرب من 30 في المئة من مؤشر أسعار المستهلك في البلاد يشمل السلع الخاضعة لتحديد الأسعار أو النفوذ من قبل الحكومة. ومع ذلك، أدى إعلان رفع سعر الفائدة إلى تعزيز سعر صرف الليرة على الفور.
وكانت أسعار الفائدة غير المعلن عنها تهدف في السابق إلى تحفيز الاقتصاد التركي، والذي من المتوقع أن يتقلص بنسبة تصل إلى 5 في المئة هذا العام بسبب جائحة كورونا فقط.
كما تعرضت البنوك، ولاسيما البنوك الثلاثة الحكومية في تركيا، إلى ضغوط للإقراض وللصبر على القروض المتأخرة. وقد أدى ذلك، إلى جانب أسعار الفائدة السلبية، إلى خلق فقاعة ائتمانية ارتفع فيها الائتمان المحلي على أساس سنوي بنسبة 41.5 في المئة في يوليو وحده.
وقد شجع ذلك على زيادة غير مستدامة في البناء المحلي، حيث ارتفعت مبيعات المنازل بنسبة 124.3 في المئة على أساس سنوي في يوليو بعد زيادة قدرها 208 في المئة في يونيو. وفي الوقت نفسه، انخفض تكوين رأس المال الثابت الإجمالي في تركيا، بنحو 15 في المئة في عام 2019، مما يشير إلى ازدهار الاستثمار المحلي غير المنتج.
وتعاني تركيا أيضًا من نقص مزمن في المدخرات المحلية مما أدى إلى حدوث عجز هيكلي في الحساب الجاري، تضخم هذا العام بسبب زيادة الواردات من نوبة الائتمان المحلية.
وأدى ارتفاع نسبة الواردات عن الصادرات، بمتوسط أكثر من الثلث، إلى تقويض تأثير انخفاض قيمة العملة على القدرة التنافسية للصادرات.
وبالإضافة إلى البيئة العالمية الضعيفة، فقد تسبب ذلك في انخفاض الطلب الخارجي من شركاء تركيا التجاريين الرئيسيين في أوروبا الغربية. وقد أدى هذا بدوره إلى إعاقة زيادة الصادرات.
وتراجع السفر والسياحة، اللذان يشكلان ما يقرب من خمس صادرات تركيا ويمثلان 35 مليار دولار في عائدات التصدير لعام 2019، بنسبة 95 في المئة في النصف الأول من عام 2020، مما حد من توافر التمويل الدولي.
ويعتمد ميزان مدفوعات تركيا بشكل كبير على الاقتراض الأجنبي قصير الأجل الذي يبلغ حاليًا أكثر من 15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أو أكثر من 100 مليار دولار على أساس الناتج المحلي الإجمالي للبلاد لعام 2019.
وبلغ صافي الاستثمار الأجنبي المباشر 1.1 في المئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2019، وهو أقل بكثير من المتوسط بالنسبة لدول مماثلة مثل البرتغال (3.5 في المئة) وبولندا (2.5 في المئة) وحتى الأرجنتين (1.4 في المئة).
وتشير المقاييس الكمية إلى تزايد عزلة تركيا عن الأسواق الصاعدة الأخرى، فقد توسعت تركيا في ضخ السيولة النقدية في نظامها المالي، وأنفقت احتياطياتها النقدية بوتيرة أسرع مما فعلت أي دولة صاعدة رئيسية، كما أن سعر الفائدة لديها أقل كثيرا من معدل التضخم.
وأصبحت القدرة على تحمل الديون الخارجية طويلة الأجل حساسة لانخفاض قيمة الليرة، فضلاً عن احتياجات التمويل الخارجي المرتفعة، والتي قُدرت قبل أزمة كورونا بنحو 200 مليار دولار سنويًا، بما في ذلك عجز الحساب الجاري، أو ما يقرب من الربع من الناتج المحلي الإجمالي المتوقع في تركيا قبل الأزمة.
العرب