الاستقطاب في مواقف الجمهور أزاء النزاع بين أذربيجان وأرمينيا، يمنحنا أمثلة جديدة على تأثر آراء شرائح واسعة، تأييدا أو رفضا، بطريقة مشجعي كرة القدم، أو أنصار القبائل، معهم أينما غزت القبيلة، وإن لم يكن لنا من الغنائم نصيب.
لعل أكثر الأمثلة الحاضرة هنا، هو المواقف التي اتخذها السوريون بمختلف انتماءاتهم وميولهم الفكرية، تجاه النزاع الذي يفترض أنه لا يعنيهم كثيرا، إلا في حالة السوريين من أصل أرمني، فكان من المفهوم أن يتعاطف الأرمن في سوريا وكذلك في لبنان والعراق، مع بلدهم الأم أرمينيا، ومع بلد يتقاسمون معه الروابط العرقية والمذهبية، وكذلك في موقفهم المناوئ لتدخل تركيا، ما استدعى ذهاب البعض منهم للقتال كمتطوعين مع القوات الأرمنية، فالتدخل التركي كما قال الرئيس الأرمني في لقاء إعلامي له مؤخرا، يذكّر كل أرمني بالتهجير والنزاع الذي وقع مع العثمانيين قبل مئة عام.
ومازلت أذكر أن الفنانة السورية الأرمنية لينا شاماميان، رفعت في إحدى حفلاتها في إسطنبول علم أرمينيا نهاية فقرات الحفل، وكان ردات الفعل على ذلك متباينة بين مؤيد ومعارض، وبين غير مبال، ومن اعتبر ذلك مثالا على أن الهوية الطائفية هي الاكثر نفوذا من الوطنية، في تحديد مواقف أبناء المشرق العربي السياسية.
البعض يرى أن التفسير لموقف الإسلاميين السنة المؤيدين لتركيا، في مناصرتهم لأذربيجان، هو مجرد امتداد لذهنية الانكشارية العثمانية
وإذا عدنا للموقف من النزاع المتجدد في أذربيجان، سنقول إنه من الممكن تفهم أن يتعاطف السوريون الأرمن مع أشقائهم في القومية والهوية خارج الحدود، كما يتعاطف الكردي السوري مع شقيقه الكردي خارج سوريا، لكن في ما يتعلق بموقف السوريين من العرب السنة، من النزاع الأذربيجاني الأرمني، فهو قد تحدد غالبا بناء على موقفهم من تركيا، وليس أذربيجان، بدون أن يكونوا هم انفسهم معنيين بهذه القضية مباشرة، فتجد الكثير من المعارضين للإسلام السياسي ولحكومة أردوغان، اتخذوا موقفا مؤيدا لأرمينيا، بعضهم فقط من باب النكاية بتركيا، وبالطبع هناك من هم مؤمنون بمظلومية الشعب الأرمني، ولسنا هنا في معرض مناقشة القضية تاريخيا، ولا نملك الأهلية والتخصص لنتعمق في تحديد الطرف المذنب في هذا النزاع، وإن كان المؤرخ برنارد لويس يأخذ موقفا متوازنا ويتحدث عن مجازر وقعت من الطرفين، لكن في ما يتعلق بالتهجير، فالوقائع تشير إلى أن التهجير وقع بشكل أساسي ضد الأرمن، الذين اقتلعوا بالفعل من قراهم وطردوا خارج تركيا، وشاركت في هذا التهجير حينها العشائر الكردية المتحالفة مع السلطان عبدالحميد. لكن الفئة اللافتة أكثر من غيرها، في رأيي، هم المؤيدون لأذربيجان من بين السوريين، فأكثرهم اتحذ ذلك الموقف بالتبعية لتأييدهم لحكومة اردوغان ذات الميول الإسلامية، وايضا، قد يكون من المفهوم أن يؤيد إسلامي سوري حكومة ذات ميول وهوية إسلامية كحكومة حزب العدالة في تركيا، انسجاما مع انتمائه للتيار الإسلامي السني، لكن من غير المبرر تماما أن يستتبع هذا التأييد موقفا مناصرا لأذربيجان ضد أرمينيا، فأذربيجان أولا ليست دولة ذات ميول إسلامية، ولا شعبها متدينا حسب المطلعين عليها، ومعظم سكانها من الطائفة الشيعية، وهي تاريخيا مهد انطلاق الحركة الصفوية، التي يكن لها الإسلاميون السنة الكثير من البغض، ويربطونها بالتوغل الإيراني في سوريا، فصفي الدين الأردبيلي هو الجد الخامس لإسماعيل الصفوي، وأردبيل في اذربيجان هي معقل السلالة الصفوية، وهكذا فنحن أمام دولة ليست إسلامية الميول ولا سنية الاغلبية، وليست عربية، فما الذي يجعل الإسلامي السني المؤيد لحكومة تركيا، يتعاطف معها؟ ما الذي يجعل الإسلامي السني، الذي بنى تحالفه مع تركيا على أنها تنتمي لتياره نفسه، وانها دولة سنية تمثل ظهيرا له أمام التشيع «الصفوي» كما يوصف في ادبياتهم، يدعم دولة علمانية، شيعية السكان كأذربيجان؟
يبدو أن الجواب الوحيد، هو موقف التأييد لأذربيجان والدفاع عنها، كما شاهدنا في آلاف التغريدات والمقالات التي صدرت من التيار الإسلامي المؤيد لتركيا، والتي من ضمنها ترهات تتعلق بتحول الشيعة في أذربيجان للمذهب السني، هو موقف تبعية على «العمياني» للموقف التركي لا أكثر، وليس صادرا عن أي قناعة، أو مصلحة ذاتية، أو له مبررات فكرية، فتركيا تؤيد أذربيجان بناء على الأواصر القومية التركية، وكما يقول الرئيس التركي أردوغان دائما (تركيا وأذربيجان شعب واحد في دولتين) وإذا كانت لتركيا أسبابها القومية لتأييد أذربيجان، ولروسيا أسبابها المذهبية الأرثوذكسية في تأييد أرمينيا، ولإيران أسبابها المصلحية والقومية في موقفها شبه المحايد، فإن البعض قد يرى أن التفسير لموقف الاسلاميين السنة المؤيدين لحكومة حزب العدالة التركية، في مناصرتهم لأذربيجان، هو مجرد امتداد لذهنية الانكشارية العثمانية.
وائل عصام
القدس العربي