في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1932 نال العراق استقلاله، ونُقلت البلاد من إقليم خاضع إلى الانتداب البريطاني إلى الدولة رقم 57 في العالم، باستقلال وصلاحيات كاملة وفقاً للقانون الدولي. وظل العراق 12 عاماً من الخضوع للانتداب منذ 1920 حتى استقل في مثل هذا اليوم.
وتزامن خضوع العراق للانتداب البريطاني عام 1920، مع الأردن وفلسطين ومصر أيضاً، وخضعت سوريا ولبنان وتونس والجزائر والمغرب للانتداب الفرنسي، وقد اكتسب هذا الانتداب الصفة القانونية من عصبة الأمم، التي تحولت في ما بعد إلى هيئة الأمم المتحدة الحالية، إذ ستكون الدولة التي تتولى الانتداب (بريطانيا في حالة العراق) هي المسؤولة عن الدولة الخاضعة لها (العراق)، وكانت بغداد أولى العواصم التي تحركت، وتمكنت من التخلص من الانتداب، والحصول على الاستقلال التام، والتحول من إقليم إلى دولة.
وبين موعد تأسيس الدولة والاحتفال باليوم الذي استقل فيه العراق أحد عشر عاماً، وبين الموعدين مساحة ضائعة من الوقت والجهد، الذي مضى على الدولة التي تحتفل بعيدها الوطني المئوي من دون تحضيرات تذكر، في حدث لا يتكرر مرتين في عمر الشعوب.
ولادة الدولة العراقية الحديثة
بمجرد استقلاله، احتل العراق التسلسل 57 بين دول العالم في عصبة الأمم، المنظمة النواة للأمم المتحدة الحالية، وهي أول منظمة أمن هدفت إلى الحفاظ على السلام العالمي، بعد التوقيع على معاهدة فرساي في باريس عام 1919، ولتخرج بغداد من عباءة الانتداب البريطاني إلى دولة مستقلة بعد 56 دولة، لتجلس على مقعد مبكر بين دول العالم الحر من بين 58 عضواً مجموع دول العصبة، التي كانت مصر آخر عضو انضم إليها، إذ حلت في عام 1946.
وكانت ولادة الدولة العراقية وحضورها في الساحة الدولية في هذا المحفل الدولي السياسي الذي أراد نزع السلاح من أيدي الدول المتحاربة في أوائل القرن العشرين، وفرض قيود على برامج التسلح العالمي، وحلمت تلك الدول بإمكان نزع السلاح العالمي في مؤتمر دولي عقد سنة انضمام العراق 1932 – 1934 واستمر عامين دون جدوى، إذ كان العالم متردداً في خفض برامج التسلح وغير متيقن من جدوى ذلك. لكن الأمر في السر ليس كما هو العلن، إذ ارتابت الدول من الخصوم المتنامين حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1945.
ورغم ذلك فإن استقلال العراق وتسجيل شعبه خريطة جديدة للوطن العراقي، بما رافقها من تحديات كبيرة في مقدمتها سطوة الانتداب البريطاني وتباين رغبات الشعب واختلاف تطلعاته، أكد أن هذا البلد العربي يلد ولادة قيصرية. ولولا حكمة الهاشميين ودهاء رئيس الحكومات العراقية، الذي تولاها 14 مرة، نوري باشا السعيد خريج الأستانة وكلية ساند هيرس الإنجليزية الأشهر في العالم، لما تمكنت الدولة الفتية من الظهور والوقوف على قدميها، حسب غالبية المؤرخين، بل والوقوف إلى صف الكبار في العالم بفهم قل نظيره لدور المتغير الدولي في السياسة الدولية، وأثره في تقرير مصير البلدان المستقلة حديثاً.
صراعات الحكم بعد الاستقلال
وانشطرت مراكز القوى السياسية في العراق، التي تأسست عام 1921، بصورة مبكرة إلى تيارين متباينين في التوجهات والأهداف، تيار النخبة الوطنية الذي لعب دوراً رئيساً في تأسيس الدولة العراقية، ممثلاً بمجموعة غير قليلة من السياسيين والضباط، الذين انتموا سابقاً إلى الجمعيات السرية المناهضة للحكم العثماني والتركي في ما بعد، والجبهة المناقضة لهم ممثلة بمُوالي النفوذ البريطاني المستعمر ذي اليد الطولى في حكم البلاد، التي كانت تسيّر دفة سفينة الحكم نحو أهوائها ومصالحها وتنصيب من تشاء في الحكم، حتى نجحت في سحب البلاد إلى ثورة الرابع عشر من يوليو (تموز) 1958، لتدخل في حمامات الدم، على إثر مقتل العائلة المالكة، لتنسج اتفاقات وأهواء تحاكي اليسار العالمي، وتجر البلاد إلى انقلابات طاحنة بدأت ولم تنته.
ظلت البلاد طيلة الحكم الوطني بُعيد الاستقلال في خضم صراع معلن بين القصر ورجال الملك من ناحية وبين قوى الشعب، التي ترى أن القصر وحاشيته بعيدون عن فقر الناس وتطلعهم لحياة أفضل، مع تنامي طموح الضباط الشباب الذين تخرجوا في الكليات الحربية الملكية والمبتعثين للخارج. إذ تنامي الترف في القصور وظلت الحياة تحاكي سلطة الانتداب بأرستقراطيتها الجديدة على المجتمع العراقي، إذ لم يكن للثروة الجديدة التي رفعت القلة التي استفادت منها إلى أعلى بكثير من جمهرة الشعب، إلا أن “تقوي الحواجز النفسية القائمة بين الطبقات، وأن تهدد بنية المجتمع”، كما يقول المؤرخ حنا بطاطو في وصف الحالة العراقية إبان الحكم بعيد الاستقلال، التي أثارت النشاط السياسي المعارض لإيقاع الحكم وتنامي العداء ضده.
تأسيس الحركات والأحزاب
ومقابل ذلك اضطرت السلطة مراراً إلى نزع جلدها، وإعلان الأحكام العرفية، وتنصيب زعيم عسكري مكلف إعادة الأمن والسيطرة على المعارضة وقمعها واعتقال قادتها، كما حدث في مطلع الخمسينيات، وتكرر لينبئ عن حركة الضباط الأحرار، وبروز قائد الانقلاب الجمهوري الزعيم عبد الكريم قاسم.
وكان العراق طيلة حقبة الاستقلال سباقاً في تأسيس الحركات والأحزاب المناوئة للحكم الملكي حيناً ولسلطة الانتداب الإنجليزي أحياناً، يحركها اليسار العراقي والقومي الديمقراطي ممثلاً بالحزب الشيوعي المناهض اللدود للنظام الملكي منذ تأسيسه مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، وولد أحزاباً أخرى مناهضة أو منافسة له كحزب البعث والحزب الوطني الديمقراطي، التي تنافست على السلطة ونفوذها في البلاد، في ظل غياب رؤية وطنية أو دراية دولية لأهمية الموقع والدور الجيبولتيكي للعراق.
لقد حقق رعيل الحكم الأول للعراق (1921 – 1958) كثيراً من المنجزات، في مقدمتها توحيد البلاد وتثبيت عاصمتها العباسية بغداد، واستعادة ولاية الموصل المكونة من أربع محافظات كانت السلطات التركية تروم ضمها بعد سايكس – بيكو، لكن دهاء المفاوض العراقي الملكي حال دون ذلك.
ورغم هذا فإن انقلاب 1958، ألغى حلم رئيس الحكومة العراقية الذي يرى أنه “لا معنى لأمن وطني عراقي من دون منفذ كفء على البحر، وتأمين منابع دجلة والفرات”، كما قال نوري باشا في المدرسة الحربية العراقية مطلع الخمسينيات.
صباح الناهي
اندبندت عربي