يعود تشرين العراقي هذا العام إلى الساحات محمّلا بكثير من الوعود والحيوية والألق، وبكثير من الوضوح والثقة والإصرار على استكمال الثورة، واستعادة الوطن. وفي ما يشبه “بياناتٍ أولى”، يحدّد الثوار ما يريدونه وما يطمحون إلى تحقيقه في “هوسات” شعبية، يمكن إدراجها في خانة “السهل الممتنع”. السهل الذي يحتاج إلى رؤية وتدبير، والممتنع الذي يلزمه تخطيط ودراية، ومرونة أيضا. وقد تعلم ثوار تشرين من تجربتهم كيف يحاورون، وكيف يناورون، وكيف يداورون حتى يروا صيحتهم الأولى، وقد صارت واقعا ماثلا أمامهم: “نريد وطنا”.
بلغ ثوار تشرين سن الرشد بسرعة، تعلموا أن يتقنوا صناعة الثورات من دون أن يفتحوا حسابا في حزبٍ أو حركة أو تجمع، رسموا أفقا أخضر أمامهم، تخطّوا ما هو سائد، تجاهلوا ما أعلنه باحثون عن زعامةٍ من بيانات ومشاريع وخطط استقرّت في سلال المهملات، بعد أن أكتشف الثوار أنها لا تعنيهم، وكشفوا زيف أصحابها.
بلغ ثوار تشرين سن الرشد بسرعة، تعلموا أن يتقنوا صناعة الثورات من دون أن يفتحوا حسابا في حزبٍ أو حركة أو تجمع
في عام واحد، أعطى الثوار ستمئة شهيد وأكثر من عشرين ألفا بين جريح ومعوق ومختطف ومفقود. تبدو الحصيلة “استثنائية”، لكن الوطن يستحق. هذا ما قاله أحد الثوار في تغريدة له على “تويتر”. أضاف: “إذا كنت تعشق وطنك قدّم له روحك على راحة يدك، فإما حياة تسر الصديق، واما ممات يغيظ العدى”. .. لكن “العدى” الذين يضمرون الحقد والكراهية للثوار كثيرون، وأكثرهم خطرا من يتصنّع التماهي مع الثوار، وأحيانا الدفاع عنهم، أو حتى التحدّث باسمهم. وما نسمعه اليوم من تصريحات، وما نقرأه من تغريدات، يفصح عن واقع الحال الذي على الثوار قراءته جيدا، والتأمل في مآلاته. هنا الحذر ليس واجبا فحسب، إنه مسؤولية تاريخية، التفريط بها يعني الهزيمة، وأجدادنا قالوا: “احذر العقرب التي لدغتك”. وقد لدغت “العقارب” أهلنا سبعة عشر عاما مليئة بالأهوال والنكبات، ولا تزال تنفث سمومها كي تواصل استنزافنا إلى النهاية.
انتباهة الثوار مطلوبة إذن، وإذا كان الثوار قد تعلموا من تجربتهم معنى أن يظلوا ثوارا، فإن أعداءهم قد روّضوا أنفسهم على تغيير جلودهم كما الثعابين، وقد أدمنوا الخداع والحقد ومقاربة الشر دائما. هكذا هم يكيدون للثوار بألسنةٍ حداد، ويغرزون خناجرهم المسمومة في ظهورهم مرّة، ويتودّدون إليهم محاولين استمالتهم واحتواءهم أخرى. وفي الحالين، يظل الهدف واحدا: إعادة إنتاج “العملية السياسية الطائفية” المنهكة، وإبقاء البلاد تحت هيمنة سدنة الهيكل، وعرّابي المليشيات السوداء، ومافيات الجريمة المنظّمة.
إذا كان الثوار قد تعلموا من تجربتهم معنى أن يظلوا ثوارا، فإن أعداءهم قد روّضوا أنفسهم على تغيير جلودهم كما الثعابين
في الآن الحاضر، ومع عودة تشرين إلى الساحات، يمكن رصد أكثر من محاولة لركوب الموجة، بغرض سرقة الانتفاضة واختراقها وتحويل فاعليتها الثورية إلى فعل معاكس، هنا نلمس أكثر من شاهد ودليل: إعطاء منزلةٍ لحكومة مصطفى الكاظمي لا تستحقها، على خلفية زائفة، تزعم أنها الحكومة الممثلة للثوار، والمعبرة عن أهدافهم. يحدث هذا بالتوافق الممنهج لإظهار أطرافٍ في “العملية السياسية” أنها مساندة للثورة ومبشّرة بها، والسعي إلى فرزها خارج منظومة القمع والفساد التي حكمت البلاد طوال السنوات العجاف الماضية، وأيضا “تتويج” زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، زعيما للإنتفاضة ومخططا لها، وتسميته “سيد المقاومة” من الكاظمي في إطلالته التلفزيونية أخيرا. ثم إطلاق الصدر سلسلة “تغريدات” موجهة إلى شباب الانتفاضة، يريد من خلالها أخذ المبادرة، والقبض على مسيرة الإنتفاضة ومحاصرتها. وإذا لم تفلح هذه المحاولة، فثمّة رجال “القبعات الزرق” جاهزون للعودة إلى الانقضاض على تجمّعات الشباب، واحتلال الساحات كما فعلوا في السابق، وسوف يكون ذلك إيذانا برجوع البلاد إلى المربع الأول.
وفي “التغريدات” المعلنة، ثمّة ما يفضح هذا التوجه بلهجة آمرة مهدّدة: “على الثائرين انتظار الانتخابات المبكرة.. وعدم زجّ العراق في أتون العنف والغوغاء الأرعن.. والالتزام بالسلمية.. والالتزام بالشرع والأعراف.. وعدم زج العناوين الثائرة بعنوان سياسي.. إلخ”. هنا بيت القصيد الذي لا يترك خيارا أمام الثوار سوى مواصلة الانتفاضة، وتعميق رؤيتها، واستنهاض كل قدراتها لدحر الأعداء وإحراز النصر. المطلوب منها طرح رؤية مشتركة لكل تنسيقيات الانتفاضة، والعمل على بناء تحالف وطني عريض بديلا للعملية السياسية الطائفية التي تنازع سكرات الموت، والضغط لضمان تحقيق اشتراطاتٍ لانتخابات نزيهة، تسبقها إجراءات عملية لمحاسبة حيتان الفساد، ومعاقبة قتلة المتظاهرين، وتفكيك المليشيات وحصر السلاح بيد الدولة، وإلا فإن لعبة “خلط الأوراق” ستتواصل، حتى يحقق الأعداء ما يهدفون له، وعند ذاك لن نلوم سوى أنفسنا.
عبداللطيف السعدون
العربي الجديد