تتواصل في السنوات الأخيرة محاولات لتصميم الشرق الأوسط، لكن المشروع لم ينته بعد بالكامل. فالمشَاريع التي طُرحت من أجل تقسيم الدولة العثمانية، ظهرت اليوم من جديد. ولا يزال كتاب «100 مشروع لتقسيم تركيا» الذي ألفه الدبلوماسي والمؤرخ الروماني تراندافير ج. دجوفارَا، إبان الحرب العالمية الأولى، ساريًا حتى اليوم. لقد جرى تلخيص هذا الكتاب من قبل المفكر والسياسي اللبناني الأمير شكيب أرسلان، وتُرجم إلى اللغة العربية.
إن القوى الاستعمارية الكبرى في القرن الماضي، التي تنتهج سياسات ما بعد الاستعمار في هذه المنطقة، تشعر بغضب شديد إزاء إحباط مؤامرات، من قبل تركيا في الوقت الراهن. في هذا الصدد، باتت الدول الغربية المنزعجة بسبب دفاع الجانب التركي عن مصالح الشعوب في المنطقة، تلجأ إلى جميع أنواع الألاعيب، بغية وضع تركيا في مأزق، سواء في البحر الأبيض المتوسط، أو ليبيا، أو سوريا أو أذربيجان. أمّا الدول التي لا تستطيع إظهار العداء ضد تركيا علانية، فإنها ترفع صوتها وتبدي موقفها باستخدام بعض الدول العربية.
تركيا تمارس «القوة الناعمة» و«القوة الصلبة» في وقت واحد، لمواجهة المؤامرة التي يحاول الغرب تنفيذها باستخدام جنوده المأجورين
تعتقد القوى الغربية أن إيران وإسرائيل وتركيا، وهي من القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، ستكون صاحبة تأثير أكبر في السنوات المقبلة في المنطقة. ولا شك بأن زيادة تأثير واحدة من هذه الدول، سيحدد مصير المنطقة. أظهرت الإمارات العربية المتحدة والسعودية ومصر وقوفها لصالح إسرائيل بشكل صريح للغاية. أمّا إيران، فإنها تحظى بدعم من بعض الجماعات الشيعية الكبيرة، على وجه الخصوص في المنطقة. في حين تشعر تركيا، بدعم الشعوب وعدد كبير من الدول، وهي تمارس «القوة الناعمة» و «القوة الصلبة» في وقت واحد، لمواجهة المؤامرة التي يحاول الغرب تنفيذها باستخدام جنوده المأجورين. أصبحت هذه المنطقة بمثابة مركز ثقل العالم في ضوء الأزمات والتوترات الدولية خلال الآونة الأخيرة، ما دفع «القوة الناعمة» و»القوة الصلبة» إلى المواجهة في كثير من المرات. ومما لا شك فيه أن المأمول من حيث المبدأ هو حل الخلافات، عبر تناولها حول طاولة المفاوضات بالطرق الدبلوماسية، ومنع الاشتباكات المسلحة، لكن هذا الأمر لا يتحقق بأي شكل، والآليات التي يتم اتباعها لهذا الغرض، تبقى عاجزة أو غير كافية في معظم الأوقات. على سبيل المثال، الأمم المتحدة والهيئات التابعة لها، حتى عند تدخل بعض الدول أو المؤسسات لمواجهة الأزمات والتوترات، لا تتخذ حلا سياسيا ينهي الخلاف، وإنما يقتصر الأمر على فرض هدنة، أو وقف إطلاق نار قابل للانهيار في أي لحظة. وليس من الصعب فهم أسباب هذا الوضع وأسباب عدم تلبيته للتطلعات الأساسية. لا يوجد كيان، ولا سلطة فوق الدولة قادرا على حل النزاعات الدولية، وتمييز المُحق عن المخطئ، وإنشاء نظام يتوافق مع ذلك. فلا يتم تفعيل حتى القرارات الملزمة المزعومة، الصادرة عن مجلس الأمن الدولي التابع للأُمم المتحدة، الذي يعتبر الأقرب لهذه النقطة. ومصالح الدول ذات الصلة من قريب وبعيد بالخلافات، هي التي تتصدر المشهد، من دون أن تكون هناك أدنى فائدة من التحذير بفرض العقوبات.
تبدو تركيا في الفترات الأخيرة ميالة إلى سلك طريق «القوة الصلبة» أكثر من السابق، مع الإبقاء على خيار «القوة الناعمة» أو الدبلوماسية مفتوحا في المنطقة. وها هي أنقرة تلجأ اليوم إلى استراتيجية الرد العسكري، وتسعى لتأسيس وضع جديد ضد محاولات اليونان – قبرص الرومية فرض «أمر واقع» من جانب واحد شرق البحر الأبيض المتوسط. وقد عززت الحكومة التركية قوتها العسكرية في الفترة الأخيرة، من أجل اكتساب هذه القدرة والإمكانية، واستعرضت تفوقها ميدانيا في هذا المجال. من المأمول أن يتيح الوضع الجديد شرق المتوسط، للأطراف فرصة البحث عن حلول من خلال الجلوس إلى طاولة الحوار. كما اتبعت تركيا «سياسة القوة» في العراق وسوريا أيضًا، وهو ما ساعدها على تحقيق النجاحات التي استهدفتها، وفي القوقاز، تواصل أذربيجان المدعومة من تركيا انتصاراتها باستخدام استراتيجية «القوة الصلبة» في سبيل تحرير أراضيها المحتلة من قبل أرمينيا. يبدو هذا الهدف قريبا جدا الآن بعد سنوات طويلة من الجهود الدبلوماسية التي فشلت في تحقيقه.
هذه الأمثلة هي عبارة عن قراءات موضوعية تعكس الحقيقة، وليت هذه الخلافات لم تجبر الأطراف على استخدام «القوة الصلبة» وكانت هناك فرص لتحقيق السلام والاستقرار الدائمين عبر حلها حول طاولة الحوار. لسوء الحظ، لم يصل العالم بعد إلى مثل هذا النظام حتى يومنا هذا.
توران قشلاقجي
القدس العربي