ارتفاع الدين وغياب السيولة وتأخر الرواتب.. العراق أمام خيارات صعبة

ارتفاع الدين وغياب السيولة وتأخر الرواتب.. العراق أمام خيارات صعبة

وسط استياء شعبي كبير، دخل العراقيون مرحلة الحذر الشديد بسبب تأخر صرف الرواتب للموظفين الحكوميين أكثر من 50 يوما للمرة الأولى على الإطلاق، ويأتي ذلك في ظل أزمة مالية تعيشها البلاد منذ أشهر بسبب انهيار أسعار النفط وتبعات جائحة كورونا.

وحذرت اللجنة المالية البرلمانية من لجوء الحكومة إلى خيارات قد تكون الأصعب في تاريخ البلاد، وقد تضع العراقيين أمام أهوال تذكرهم بتبعات الحصار الدولي الذي فرض على البلاد بين عامي 1991 و2003.

وفي حال بقاء أسعار النفط منخفضة وعدم اتخاذ تدابير إصلاحية، فإن توقعات البنك الدولي تشير إلى أن عجز الميزانية سيتجاوز 29% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، وبالتالي ستصل احتياجات التمويل الإجمالية إلى 67 مليار دولار، أي أكثر من 39% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما قدّر معهد جيفريز للخدمات المالية أن حاجة العراق من التمويل الخارجي هذا العام ستكون بنحو 40 مليار دولار، مع صعوبات كبيرة في الحصول عليها.

3 سيناريوهات
وتوقّع البنك الدولي انكماش الناتج المحلي الإجمالي للعراق بنسبة 9.7% هذا العام، متراجعا عن نسبة النمو الإيجابية البالغة 4.4% المسجلة العام الماضي، مما يعني تسجيل أسوأ أداء سنوي منذ 2003.

وتحذر أوساط برلمانية من اللجوء إلى 3 خيارات، هي: الادخار الإجباري للرواتب، أو خفض سعر صرف الدينار، أو السحب من الاحتياط النقدي للبنك المركزي.

غير أن عضو اللجنة المالية النيابية أحمد حمه رشيد، يرى صعوبة في اتجاه الحكومة للادخار الإجباري للرواتب (استقطاع الحكومة جزءا من رواتب موظفيها وادخارها لفترة معينة، بسبب قلة السيولة، ثم تصرف لاحقا دون فوائد)، معللا ذلك بحاجته إلى قانون، لكنه أشار في الوقت ذاته إلى أن الحكومة العراقية تعمل على ذلك من منطلق آخر مؤقت، وهو تأخير الرواتب ولأكثر من 50 يوما في بعض الأحيان.

أما فيما يتعلق بلجوء الحكومة للسحب من الاحتياط النقدي الأجنبي، فكشف رشيد للجزيرة نت أن ذلك يحدث فعلا من خلال إصدار الحكومة سندات يبتاعها البنك المركزي، ويكون الضامن فيها الاحتياط النقدي الذي يقدّر حاليا بـ60 مليار دولار، منخفضا بمقدار 7 مليارات عن السابق.

أما أستاذ الاقتصاد في الجامعة العراقية عبد الرحمن المشهداني، فأشار من جانبه إلى أن جميع الخيارات أمام العراق صعبة وغير منطقية، وستكون لها آثار سلبية على الاقتصاد العراقي والمواطن.

ويعتقد المشهداني أن توجه الحكومة نحو التلاعب بسعر الصرف إلى ألفي دينار للدولار الواحد، سيوفر لها نحو 15 تريليون دينار (12.5 مليار دولار) شهريا، لكن انعكاسات ذلك ستظهر جلية على العراقيين الذين ستتضاءل قيمة أجورهم بنحو 60%، مشيرا -في حديث للجزيرة نت- إلى أن العراقيين سيواجهون ارتفاع أسعار السلع المستوردة التي تشكل 90% من مشترياتهم.

ويعلّق المشهداني أن بيانات البنك المركزي أكدت أن الحكومة اقترضت حتى أكتوبر/تشرين الأول الجاري 30 تريليون دينار (25 مليار دولار)، فضلا عن اقتراض آخر غير مباشر بـ24 تريليون دينار (20 مليار دولار) في حوالات الخزينة والسندات، مع محاولات حثيثة لاقتراض 27 تريليون دينار (22.5 مليار دولار)، وهذا سيذهب بالاحتياط النقدي العراقي في مهب الريح، خاصة أن الحكومة لن تستطيع تسديد تلك القروض، وهذا ما يعزز التكهنات التي ذهب إليها البنك الدولي.

الأسباب والحلول
أسباب عديدة أوصلت وضع البلاد الاقتصادي إلى هذا المأزق، إذ يرى الخبير المالي محمود داغر أن الحكومة لم تحسم أمرها تجاه خطة واضحة للإصلاح، فضلا عن عدم تقديم وزارة المالية أي نهج مقنن وفني إزاء ما يحصل من تدهور وهوة واسعة بين الإيرادات والنفقات.

داغر في حديثه للجزيرة نت، يرى أن المشكلات بين الحكومة والبرلمان والمناكفات السياسية أدت إلى تأخر وضع خطة تنقذ البلاد، خاصة أن الإصلاح الاقتصادي الذي وعدت به الحكومة لم يبدأ، فالسوء في إدارة المال العام منذ سنوات لا يزال مستمرا، واصفا ما يتجه إليه العراق بالهوة السحيقة التي ستجعله يواجه حراكا اجتماعيا وانصياعا للأطراف الدولية للحصول على الدعم.

اعلان
من جهته، كشف عضو اللجنة المالية النيابية محمد الدراجي أن التدهور المالي في البلاد سببه الفساد بالدرجة الأولى، مشيرا إلى أنه ووفق حجم الاستيراد، كان من المفترض أن تُرفَدَ الموازنة منذ بداية العام الحالي بـ1.5 مليار دولار كعائدات جمركية (في الحد الأدنى)، غير أنها لم تتجاوز 490 مليون دولار، معتبرا المنافذ الحدودية أفسد مؤسسة في تاريخ العراق.

وكان العديد من الخبراء الاقتصاديين قد حذروا مسبقا من الأخطاء الاقتصادية المتراكمة منذ عام 2003، إذ تقول الخبيرة الاقتصادية سلام سميسم إن العراق الآن أمام خيارين للخروج من الأزمة الحالية، فإما تخفيض قيمة الدينار أمام الدولار من أجل توفير كميات أكبر من العملة العراقية، أو طرح سندات وأذونات من البنك المركزي لبيعها للأفراد والمؤسسات المحلية والأجنبية، لافتة إلى تجربة مماثلة في عام 1972 عندما اقترضت الحكومة من الموظفين تحت اسم “سندات الصمود”، والتي كانت مقابل فوائد للمقرضين.

سميسم في حديثها للجزيرة نت، ترى أنه يجب على الحكومة محاربة الفساد المستشري ومعرفة أين ذهبت الأموال الفائضة من الموازنات السابقة التي لم يكشف عن مصيرها حتى الآن، بسبب غياب الحسابات الختامية للموازنات.

سميسم: العراق أمام خيارين للخروج من الأزمة، فإما تخفيض قيمة الدينار أو طرح سندات للبيع (الجزيرة نت)
مشكلة رواتب الموظفين
ويكشف عضو اللجنة المالية حمه رشيد، عن أن أعداد من يتقاضون رواتب من الدولة يصل إلى 3.75 ملايين موظف و3.7 ملايين متقاعد و1.5 مليون من ذوي الرعاية الاجتماعية، وهو ما يجعل الحكومة مكبلة بنفقات ثابتة واجبة الدفع شهريا، حيث تقدر قيمة رواتب الموظفين الحكوميين بـ4 مليارات دولار شهريا.

من جهته، أشار الخبير المالي محمود داغر إلى أن أعداد الموظفين في العراق هائل، غير أن هناك أكثر من ربع مليون موظف “فضائي” (وهمي)، فضلا عن آلاف آخرين يتقاضون رواتب دون وجودهم في مؤسساتهم الوظيفية.

حكوميا، يؤكد مظهر محمد صالح المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء أن أعداد الموظفين في العراق كبير جدا، وأن نصف العراقيين (20 مليون عراقي) يعتمدون على الرواتب الحكومية بطريقة غير مباشرة، إذا ما أخذ بنظر الاعتبار أن معدل عدد أفراد الأسرة 4 أشخاص.

ويؤكد صالح أن الأيام القادمة ستشهد اتفاقا بين السلطتين التنفيذية والتشريعية لإقرار قانون يسمح للحكومة بمزيد من الاقتراض، خاصة أن مرتبات الموظفين صممت وفق عائدات نفطية تقدر بـ80 دولارا للبرميل الواحد، معتبرا أن الاقتراض سيؤثر بطريقة غير مباشرة على الاحتياطي النقدي مع وجوب تقليص الدولة لنفقاتها، بحسبه.

ويختتم صالح حديثه للجزيرة نت بالإشارة إلى أن حجم الديون الخارجية منذ عام 2003 يقدّر بنحو 27 مليار دولار واجبة الدفع بين عامي 2020 و2028، بينما أكد البنك المركزي العراقي في وقت سابق أن الديون الخارجية لعهدة ما قبل 2003 تبلغ 40.9 مليار دولار، إضافة إلى الديون الداخلية التي تتمثل في الاقتراض وسندات الخزينة.

المصدر : الجزيرة