لم يكن الاتفاق الأميركي – التركي على وضع قاعدة إنجرليك في خدمة حرب التحالف الدولي ضد داعش وليد اللحظة، بقدر ما كان نتيجة مفاوضات طويلة بين الجانبين، مارست في أثنائها واشنطن مزيداً من الضغوط على أنقرة التي ترى أن الهدف الأساسي من الاتفاق هو التوصل إلى توافق تركي – أميركي بشأن الأزمة السورية، وتحديدا نيل الموافقة الأميركية على إقامة منطقة أمنية عازلة في الشمال السوري، تكون مدخلا عمليا لإسقاط النظام.
في محاولة لفهم الدوافع التركية من الاتفاق، ينبغي النظر إلى جملة عوامل وأسباب، لعل في مقدمتها تعاظم خطر كل من داعش والكرد، فتركيا باتت تجد نفسها أمام انتقال خطر تنظيم داعش إلى الداخل التركي، خصوصاً بعد التفجيرات التي شهدتها المناطق الحدودية، وكان أهمها الذي وقع في مدينة سوروج، وأودى بعشرات. فيما على الصعيد الكردي، باتت تركيا ترى نفسها بعد سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية على مدينة تل أبيض الحدودية أمام إقليم كردي على حدودها الجنوبية، يطمح إلى ربط المناطق الكردية في الشرق، أي القامشلي وكوباني (عين العرب) بعفرين، لتصبح هذه المناطق إقليما مكتملا جغرافيا، يمتد من جبال قنديل على الحدود العراقية الإيرانية التركية إلى البحر المتوسط، ولعل ما زاد من مخاوف تركيا إحساسها بأن من يقف وراء هذا الصعود الكردي هو عدوها اللدود حزب العمال الكردستاني. وعليه، ربما وجدت تركيا في اتفاقها مع أميركا مدخلاً لتحقيق أربعة أهداف رئيسية:
إعادة الدفء إلى العلاقات التركية – الأميركية، وما لهذه العلاقة من أهمية استراتيجية في التنسيق بشأن قضايا المنطقة ولاسيما الأزمة السورية، فضلا عن الحد من تداعيات التقارب الإيراني – الغربي على موقعها في الاستراتيجية الغربية تجاه المنطقة. الحد من خطر داعش والكرد على الأمن القومي التركي، وإذا كانت تركيا ترى في داعش خطراً مؤقتاً، فإنها ترى في الخطر الكردي خطراً استراتيجياً ومصيرياً، لأن الأمر يتعلق بمستقبل الدولة التركية وبنيتها وجغرافيتها. ترى تركيا، بحصولها على إقرار أميركي بإقامة منطقة أمنية في الشمال السوري، أنها حققت أحد أهم شروطها في الانضمام إلى التحالف الدولي في الحرب على داعش، والأهم بالنسبة لها أن تشكل هذه المنطقة منطلقا للمعارضة السورية المسلحة، في معركتها لإسقاط النظام السوري الذي يشكل هدفا استراتيجيا لها. محاولة قطع الطريق أمام التحالف الأميركي – الكردي الذي نشأ على وقع الحرب ضد داعش لصالح الدور الإقليمي التركي الذي هو أقدر على تقديم خدمات لهذه الحرب.
ثمة من يرى أن مجمل ما سبق ليس بعيداً عن العامل الداخلي التركي، المتمثل بالتوجه إلى الانتخابات المبكرة، إذ يرى هؤلاء أن من شأن هذا التحرك الأمني والعسكري شد عصب الناخب التركي نحو حزب العدالة والتنمية الذي يطمح إلى استعادة ما فقده من الأصوات في الانتخابات البرلمانية، والتطلع إلى أغلبية برلمانية، تمكنه من تشكيل الحكومة وحده، بعد أن تبينت صعوبة تشكيل حكومة ائتلافية، بسبب تناقض أجندته مع أجندة أحزاب المعارضة. في المقابل، أميركا هي الأخرى مستفيدة من هذا الاتفاق، لا لجهة كسب تركيا إلى جانبها في الحرب ضد داعش فحسب، بل على صعيد امتلاك أوراق جديدة في إدارة أزمات منطقة الشرق الأوسط، وأهمية دور العامل التركي في موازنة العامل الإيراني تجاه قضايا عديدة في المنطقة. ففي النهاية، تقوم السياسة الأميركية على المصالح، ومصلحتها تكمن في استنزاف القوى الإقليمية، وتسخيرها في خدمة الاستراتيجية الأميركية.
عند هذه النقطة، ينبغي النظر إلى أن الاتفاق الأميركي – التركي لا يعني توافقاً في الرؤى تجاه كيفية حل الأزمة السورية، فواشنطن في إصرارها على حل سياسي تأخذ العاملين، الإيراني والروسي، بالاعتبار، فيما تعتقد تركيا أن جوهر المشكلة يتعلق ببقاء النظام، وعليه، تسعى إلى إسقاطه. لذا، يبقى الاشتباك الأميركي التركي قائماً، حتى في ظل انخراط أنقرة في حرب التحالف ضد داعش، على أمل أن تكسب المنطقة الأمنية العازلة لاحقا.
خورشيد دلي
صحيفة العربي الجديد