لنتخيَّل لبرهةٍ لو أنَّ مسؤولاً لبنانياً آخرَ، غير الرئيس نبيه بري، من خارج القوى التي تعتبر نفسها «ممانعة ومقاومة»، وقف يعلن التفاهمَ عبر الولايات المتحدة على بدء مفاوضات مع إسرائيل. يكفي الجواب، الذي سيضع من يتصدَّى لعمل كهذا في خانة الخيانة، ليؤكّد كيف صار توازن القوى في لبنان، ومن يملك المفاتيح الحقيقية للحرب والسلم في تلك البلاد التعيسة، متى يشاء وبالشروط التي يشاء.
فجأة صار الجلوس مع الإسرائيليين على طاولة واحدة في الناقورة عملاً وطنياً. وصارت رعاية الولايات المتحدة لمفاوضات كهذه، بل دعوتها إلى «المساعدة على تأسيس جو إيجابي وبنَّاء مع الطرفين والمحافظة عليه»، مسألة تقتضيها مصلحة لبنان! والمقصود بالطرفين طبعاً: لبنان وإسرائيل، التي تسمى في أدبيات الممانعين مرة «الكيان الإسرائيلي» ومرة أخرى «الكيان الصهيوني»، مع أنَّ أياً من هذه التعابير لم يرد في نص الاتفاق الذي وافق عليه الرئيس بري وقرأه أمام الإعلام.
للتغطية على الأمر، كانت هناك حاجة إلى عملية ماكياج منظمة عبر وسائل الإعلام التي تحسن هذه المهمة. قيل مثلاً في هذا السياق إنَّ مبادرة الرئيس نبيه بري لا علاقة لها بالتهديد بالعقوبات الأميركية، التي طالت معاونه السياسي الوزير السابق علي حسن خليل. بري نفسه قال إن اتفاق الإطار تم التوصل إليه قبل إعلان العقوبات، لكن الواضح أن «الانفتاح» على الدور الأميركي في تسهيل عملية التفاوض سيلاقي صدى إيجابياً لدى إدارة أميركية معروفة بحبها للإشادة بأدوارها في حل الأزمات المستعصية.
جرى كذلك، عبر وسائل الإعلام التي نتحدث عنها، تكرار الحديث عن «مفاوضات غير مباشرة» في الناقورة. وكل ذلك للقول إن «الممانعين» الذين سيشرفون على عملية التفاوض، رغم القول بنقل الملف إلى الرئيس اللبناني وقيادة الجيش، لا يجلسون «مباشرة» مع الإسرائيليين. ولا بدَّ أن يكون لدى هؤلاء تفسير آخر لعبارة «مباشرة» غير الذي نعرفه. إذ كيف يوصف الجلوس مع شخص آخر في غرفة واحدة والتحدث إليه، والاستماع إلى مواقفه، ولو عبر وسيط موصوف في كل الأحوال بـ«الشيطان الأكبر»؟
كل ذلك يجرنا إلى القول إن قضية الحدود الجنوبية والعلاقة مع إسرائيل كانت دائماً في لبنان مادة تُستخدم في بازار المتاجرة الداخلية، ولا علاقة لها في حقيقة الأمر بالمصلحة اللبنانية الفعلية.
بين لبنان وإسرائيل اتفاقية هدنة مبرمة منذ عام 1949، تنص في مادتها الأولى على:
«يتعهد الجانبان اللبناني والإسرائيلي من الآن فصاعداً التقيد بدقة بالأمر الصادر عن مجلس الأمن بعدم اللجوء إلى القوة العسكرية لتسوية قضية فلسطين، وبامتناع الجانبين عن اتخاذ أي عمل عدائي ضد شعب الجانب الآخر أو قواته، أو إعداد مثل هذا العمل أو التهديد به. كما تنص على أن يُحترَم احتراماً كاملاً حق كل طرف في أمنه وحريته من الخوف من هجوم تشنه عليه قوات الجانب الآخر المسلحة».
لا يحتاج المرء إلى مراجعة بعيدة في صفحات التاريخ ليتبيَّن له كيف تعاطى لبنان مع نص هذا الاتفاق، أولاً من خلال سماحه بنشاط المنظمات الفلسطينية في الجنوب، (اتفاق القاهرة عام 1970) التي شرّع لها مجلس النواب اللبناني اقتطاع جزء من تلك الأرض أُطلق عليه صراحة اسم «فتح لاند» لممارسة نشاطها من حدود لبنان. لم يكن ذلك التشريع في ذلك الوقت إلا لمصالح انتخابية داخلية، رئاسية ونيابية، وجاء بعده الالتفاف حول نشاط المقاومة الفلسطينية تحت شعارات «الحركة الوطنية» خلال الحرب الأهلية اللبنانية للأغراض السياسية نفسها ولاستغلالها لفرض واقع سياسي جديد وتوازنات قوة جديدة، انتهت إلى التعديلات التي حصلت في الدستور اللبناني بهدف إنهاء تلك الحرب.
انتهت الحرب بواقع سياسي جديد في لبنان. لكنها انتهت أيضاً في حين الواقع الجديد في الجنوب كان يفرض نفسه على البلد، متمثلاً بالاحتلال الإسرائيلي لجزء من الأرض اللبنانية. هنا أيضاً دخلت السياسة والمصالح الداخلية على الخط لمنع أي اتصال أو وساطة تسمح بعودة العمل بنصوص اتفاقية الهدنة، ما كان يمكن أن يمهد لانسحاب إسرائيل في مقابل وقف العمليات ضدها من لبنان كما تنص تلك الاتفاقية. لم يحصل شيء من ذلك، بل كان من المحرّمات أن يطرح شيء من هذا القبيل. بدلاً من ذلك تم تلزيم عملية التحرير لحزب واحد يتصرف بها كما يشاء، بحسب ما تفرض مصالحه الداخلية ومصالح إيران، راعيته الإقليمية. وكان الشعار الثلاثي الذي مُنع على أي حزب أو جهة سياسية في لبنان مناقشته (الجيش والشعب والمقاومة).
أفضت المقاومة إلى خروج القوات الإسرائيلية من لبنان في مايو (أيار) 2000. وكان يمكن أن يكون ذلك بمثابة عملية طي لتلك الصفحة السوداء التي كلفت اللبنانيين دماء شبابهم ودمار عدد من قراهم ومناطقهم الجنوبية، لكن مصلحة «حزب الله» والمحافظة على نفوذه وسلاحه كانت تقتضي اختراع أسباب جديدة للمضي في استثمار شعارات المقاومة على الساحة السياسية الداخلية. هنا تذكر «الممانعون» قطعة من الأرض اللبنانية تدعى مزارع شبعا. أرض صغيرة محتلة من جانب إسرائيل منذ عام 1967، أي لا علاقة لها بالاحتلال الإسرائيلي لأراضي الجنوب المشمولة بقرار مجلس الأمن رقم 425، والتي انسحبت منها إسرائيل.، مساحتها في حدود 200 كلم مربع.
حل مشكلة شبعا واستعادتها للسيادة اللبنانية لا علاقة لها بإسرائيل، بل حلّها يفترض تعاوناً من أصدقاء «حزب الله» في دمشق.
في عام 2000 أرسلت السلطات اللبنانية إلى الأمم المتحدة خريطة مؤرخة في عام 1966 تشير إلى أن هذه المزارع كانت تقع داخل حدود لبنان. وجاء رد الأمم المتحدة كما يلي:
«في حوزة الأمم المتحدة 10 خرائط أخرى أصدرتها بعد عام 1996 مؤسسات حكومية لبنانية، منها وزارة الدفاع والجيش، وجميعها تضع المزارع داخل الجمهورية العربية السورية. وقد قامت الأمم المتحدة أيضاً بدراسة ست خرائط أصدرتها حكومة الجمهورية العربية السورية، منها ثلاث خرائط تعود إلى عام 1966، تضع المزارع داخل الجمهورية العربية السورية».
وعندما بحث مجلس الأمن مسألة تطبيق القرار 1701، الذي تم التوصل إليه بعد حرب 2006، أكد الأمين العام آنذاك كوفي أنان أن حل قضية مزارع شبعا تحتاج إلى اتفاق لبناني – سوري بشأن ترسيم الحدود الدولية بينهما.
وهنا نصل إلى الجزء الآخر من عملية ترسيم الحدود، المتعلق بالحدود البرية. فإذا توصل الوفدان اللبناني والإسرائيلي إلى اتفاق على ترسيم الحدود البحرية، يمكن أن يمهد الطريق لحل الخلافات على الحدود البرية، التي يقول الطرفان إنها خلافات طفيفة، هل يفتح ذلك الباب أمام تسوية مسائل الحدود العالقة مع سوريا، التي يرفض نظام بشار الأسد مناقشتها، بما يتضمن تأكيداً من النظام السوري للأمم المتحدة أن مزارع شبعا أرض لبنانية؟ أم سيكون حل الخلافات الحدودية مع إسرائيل أسهل من حلها مع سوريا؟
وهل يساعد ذلك على إقفال ملف المتاجرة بالسيادة والحدود، ويعيد «حزب الله» حزباً سياسياً لبنانياً، لا يستمر في المزايدة على سواه بشعارات الممانعة والتحرير؟
إلياس حرفوش
الشرق الأوسط