يمكن القول إن العلاقات الأمريكية – الصينية تشهد حاليا واحدة من أسوأ مراحلها، بما يشبه أعوام العداء السابقة للزيارة التاريخية للرئيس نيكسون لبكين في شباط (فبراير) عام 1972 ولقائه مع الزعيم الصيني ماو تسي تونج، حيث استخدم الرئيس الأمريكي دونالد ترمب تعبيرا من قبيل أن “الصين ستدفع الثمن على إصابة المواطنين الأمريكيين والعالم بفيروس كورونا”.
وبغض النظر عن قدرة الولايات المتحدة جعل الصين تدفع الثمن أم لا، فإن الموقف الأمريكي من الصين واضح لا لبس فيه.
في المقابل، فإن علاقة الصين بالاتحاد الأوروبي وآفاقها المستقبلية، لا تزال محل جدل ونقاش داخل دول التكتل، ويبدو أن قادته يتبنون سياسة خطوة للأمام وخطوتين إلى الخلف عند التعامل مع الصين.
ويدرك الأوروبيون أن ضجيجهم ضد الصين، لن يحدث تحويلات جذرية لصالحهم في العلاقة التجارية ولن تستطيع قلب المعادلة الاقتصادية الراهنة.
وفي الحقيقة فإنه منذ بداية أزمة كورونا، قيمت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التحديات التي تشكلها الصين على اقتصاداتهم، حيث أخذ هذا النهج في البروز والتبلور. فالشعور يتصاعد لدى القيادة الأوروبية بأن العلاقة الاقتصادية الصينية مع أقطار التكتل تفتقد إلى المعاملة بالمثل، ويخرج الجانب الصيني منها بوصفه الرابح الأكبر.
كما تتزايد المخاوف لديهم بما يصفونه بنهج صيني أكثر حزما وتصلبا في التعامل مع العالم الخارجي، فضلا عن اضطرابات في هونج كونج ومناطق أخرى من الصين لها تداعيات سياسية وقانونية واقتصادية دولية، كما أنها تضع ضغوطا على القبول بعلاقة مرنة وصحية مع بكين.
وفي الواقع فإن التجارة لا تزال أحد أبرز الجوانب الإشكالية في العلاقة الاقتصادية بين الصين والاتحاد الأوروبي، وذلك على الرغم من أنها لا تبدو بذات الحدة كما هو الحال بين بكين وواشنطن، فلا يوجد تجارة بين الاتحاد الأوروبي والصين في مجال الخدمات. والقيمة المضافة للصادرات الصينية والمنافسة بين الجانبين في الأسواق آخذه في الازدياد.
أما بالنسبة للاستثمار، فإن الاتحاد الأوروبي يشتكي من أن شركاته قامت باستثمارات أجنبية مباشرة في الصين أكثر ما حدث في الاتجاه المعاكس، بالرغم من ذلك لا يمكن إنكار أن الاستثمار الصيني في أوروبا ينمو مع تركيز ملحوظ على قطاع التكنولوجيا.
من جهته، يقول لـ”الاقتصادية”، البروفيسور آر. جي. ريدجيرف أستاذ الاقتصاد الأوروبي في جامعة لندن، والمحاضر السابق في جامعة بكين، “العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين متباينة للغاية ومليئة بالأولويات الفردية التي أوجدتها التفاعلات الثنائية بين الصين ودول التكتل كل على حدة، فهناك إجماع بين الدول الأعضاء في الاتحاد بغياب التوازن الاقتصادي في العلاقة الثنائية مع الصين، ويترافق ذلك مع خيبة أمل وعدم ارتياح من جوانب تلك العلاقة، والأعضاء في الاتحاد غير راضين بشكل ملحوظ على عدم رد الصين بالمثل على انفتاح سوق الاتحاد الأوروبي أمام بضائعها، في الوقت الذي لا تزال تتلقى فيه دول مثل بلغاريا، بولندا، وإيطاليا القليل من الاستثمارات الصينية نسبيا”.
ويضيف، “هذا الوضع لن يتغير إلا إذا استخدم الاتحاد الأوروبي قوته السوقية بشكل أكثر فاعلية، وأظهر استعدادا أكثر للانخراط في مواجهة جغرافية اقتصادية مع الصين، كما أن التدابير الاقتصادية ذات الطابع الدفاعي لن تجدي نفعا لتغيير طبيعة العلاقات المختلة بين الأوروبيين والصينيين”.
تعكس وجهة نظر البروفيسور ريدجيرف اتجاها يكسب مزيدا من الأرضية أوروبيا بشأن كيفية التعامل مع الصين. فاغلب التوقعات تشير إلى أن العلاقات الثنائية بين الطرفين ستكون أكثر صرامة وحدة وذات طبيعة تصادمية في الأعوام المقبلة، دون أن تكون بذات الحدة الراهنة في العلاقات الأمريكية – الصينية، لكنها ستسير في ذات الاتجاه العام.
وأشار اتحاد الصناعة الألمانية بداية العام الماضي إلى أن الصين “منافس منهجي” وهو مصطلح يكشف مدى الإحباط الذي تشعر به ألمانيا أكبر الاقتصادات الأوروبية، بشأن قدرة الصين على منافستها وفي الوقت ذاته تعنتها في إصلاح ممارستها الاقتصادية في الأسواق، وازداد القلق حدة عندما أكد الاتحاد الأوروبي في إحدى وثائقه – وهو أمر نادر الحدوث – أن الصين شريك يحتاج الاتحاد إلى إيجاد توازن معه في المصالح، ومنافس قوي في السعي وراء القيادة التكنولوجية، ومنافس منهجي يروج لنموذج بديل للحكم.
بدوره، يقول لـ”الاقتصادية” مات راب الباحث في العلاقات الدولية، “مصطلح المنافس المنهجي يعكس نفاد صبر الدوائر الاقتصادية الأوروبية، ما تعتقد أنه فشل صيني متعمد في فتح أسواقها في القطاعات الرئيسة أمام الشركات الأوروبية، ولهذا فإن الأوروبيين يظهرون صمتا باردا يتضمن رفضا مبطنا وأحيانا صريحا لا لبس فيه للمشروع الذي تراهن عليه الصين باعتبارها أضخم وأهم مشاريعها في هذا القرن، وهو مشروع الحزام والطريق، الذي يرمي إلى ربط آسيا بأوروبا، في المقابل طرح الجانب الأوروبي استراتيجية بديلة، بل الأهم قام بتعزيز علاقته باليابان في مجال المواصلات والطاقة ومشاريع البنية التحتية الرقمية، وهو ما تنظر إليه بكين باعتباره محاولة لتطويقها والضغط عليها لتقديم تنازلات للأوروبيين”.
من السمات المهمة للتجارة الثنائية في حقبة ما بعد انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية قدرتها المستمرة في الحفاظ على فائض تجاري مع الاتحاد الأوروبي، فمن عام 2000 – 2018 زاد العجز التجاري بين الاتحاد الأوروبي والصين من 49 مليار دولار إلى 300 مليار دولار أي ما يعادل تقريبا 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي.
لكن راسل جونسون الخبير الاستثماري لا يرى أن مصدر الانزعاج الأوروبي يكمن فقط في الفائض التجاري الصيني، لكن الأهم التحول الجاري في الاقتصاد الصيني مقارنة بالاقتصاد الأوروبي، الذي يمكن اكتشافه من تحليل طبيعة الفائض التجاري.
ويؤكد لـ”الاقتصادية” أنه بحلول عام 2018 حدث تحول في العلاقات التجارية بين الطرفين، فبعد أن كانت الصين تعرف بمصنع العالم، فإن الاقتصاد الصيني يتحول نحو المجالات ذات القيمة المضافة الأعلى، مع ارتفاع تكلفة العمالة الصينية، إذ إن عديدا من السلع التي تنتجها شركة هواوي على سبيل المثال انتقلت إلى قائمة السلع الرئيسة التي تصدرها الصين للاتحاد الأوروبي، كما زادت القيمة المضافة المحلية في الصادرات الصينية بشكل كبير، بينما لم يتحرك هذا المؤشر بالنسبة للاتحاد الأوروبي، وهذا يعني أن الصين كانت ناجحة ولو جزئيا في تحولها إلى قطاعات ذات قيمة مضافة أعلى.
لكن البعض يرى أن المساعي الأوروبية لتبنى موقف أكثر تشددا من الصين، ربما تبوء بالفشل في ظل الدور الكبير الذي تلعبه الصين في سلاسل التوريد العالمية، فحصة التجارة الداخلية للاتحاد الأوروبي من إجمالي تجارة الاتحاد الأوروبي قد انخفضت، بينما زادت حصة الصادرات الصينية.
وبعبارة أخرى، تستورد الصين سلعا وسيطة أقل بشكل متزايد من الاتحاد الأوروبي، لكنها تصدر بشكل مرتفع مزيدا من المنتجات الوسيطة إلى دول الاتحاد لإعادة تصديرها، وبهذا باتت صناعات الاتحاد أكثر اعتمادا على المدخلات الصينية لصادراته، بينما تعتمد الصين بدرجة أقل على سلع الاتحاد الأوروبي في صادراتها.
ويعلق راسل جونسون الخبير الاستثماري على ذلك بالقول “الاتحاد الأوروبي يدرك أن الضجيج الذي تقوم به ضد الصين، لن يحدث تحويلات جذرية لصالحه في العلاقة التجارية، بينما ستتوتر العلاقات الاقتصادية في القادم من الأيام بعض الشيء، وقد يحسن الاتحاد شروطه التفاوضية مع الصينيين نسبيا أيضا، لكنه لن يستطيع قلب المعادلة الاقتصادية الراهنة”.
هشام محمد
الاقتصادية