يحبس العالم أنفاسه بانتظار الانتخابات الرئاسية الأميركية في الشهر القادم، لأن ما سيحدث في واشنطن سيؤثر دوليا ليس فقط على الأسواق، بل على مسارات السياسة والاقتصاد والنزاعات. بحكم الأمر الواقع وموازين القوى الحالية يعد الرئيس الأميركي رئيسا للعالم وتتم المبالغة في مقاربة سياساته عبر هذا المنظار.
ويسري الأمر من دون شك على رهان غالبية الأوروبيين وغيرهم من بعض حلفاء الولايات المتحدة أو أعدائها على نجاح المرشح الديمقراطي جو بايدن. لكن يغيب عن بال هؤلاء أن الولايات المتحدة تغيرت كما تغير العالم منذ منعطف انتخاب ترامب في 2016. ولذا يرى فريق كبير من الأخصائيين والمتابعين أن الرهان على التغيير الكبير وراء الأطلسي ومفاعيله كمن يجري وراء سراب. وما لم تؤكد أوروبا نفسها كقوة جيوسياسية مؤثرة في التوازنات العالمية، لن يفيدها انتظار غودو أميركي أو روسي أو صيني.
المرشح الديمقراطي جو بايدن ليس مجهولا في الأوساط الأوروبية، فقد كان نائب الرئيس باراك أوباما، وكان من أبرز أعضاء مجلس الشيوخ طوال العقود الأربعة الماضية. وإذا كان الكثير من دوائر القرار الأوروبي يرفعون عمليا شعار ” كل شيء إلا ترامب” نظرا لمواقف الرئيس الأميركي الحالي إزاء الاتحاد الأوروبي وداخل حلف شمال الأطلسي أو مجموعة السبع، فإن سفيرا أوروبيا سابقا عاش كواليس واشنطن السياسية، يكشف في مجلس خاص عن أن السناتور جو بايدن “أخطأ في كل قضايا السياسة الخارجية والأمن القومي تقريبا خلال مساره العملي”.
ومن الأمثلة الملموسة معارضة بايدن لإرسال تعزيزات عسكرية أميركية إلى أفغانستان في 2010، واضطرار أوباما بعد ذلك لإرسال 30 ألف جندي من أجل التمهيد لانسحاب مشرف في العام 2011 كما كان مقررا. وهذا النقص في الرؤية حسب نفس الدبلوماسي، لازم السناتور بايدن خلال حرب العراق في العام 2003 حيث أيد قرار الرئيس جورج دبليو بوش، ووصل به الأمر لطرح سيناريو تقسيم العراق.
بيد أن ذلك لا يحد من حماس المراهنين على رئيس أميركي جديد بعد يناير 2021، ويعول هؤلاء على نهاية تداعيات “إعصار دونالد ترامب” الذي عصف بالولايات المتحدة والنظام العالمي. وينطلق هذا الفريق من مقاربته لمخاطر استمرارية ترامب في ولاية رئاسية أخرى، إذ يمكن أن يقود ذلك في تطبيق لشعار “أميركا أولا” إلى انسحاب واشنطن من حلف الناتو، وسحب القوات الأميركية من أفغانستان وبعض دول الشرق الأوسط، وفك الارتباط مع إنهاء الوجود العسكري الكبير في شبه الجزيرة الكورية.
لكن بالرغم من الخشية الأوروبية من فقدان الغطاء الإستراتيجي الأميركي وجنوح القارة القديمة نحو الاضطراب، تبدو هذه التصورات لانعكاس استمرارية ترامب على الواقعين الأميركي والدولي وتصور استفادة الصين وروسيا من ذلك، غير دقيقة وفيها مقاربات مستندة لأفكار مسبقة وتحليل أيديولوجي مغلف أكاديميا.
في المقابل يرى بعض الباحثين الأوروبيين المختصين بالسياسة الأميركية، أن الذين تراودهم “أحلام اليقظة” التي تتصور التغيير الحاسم في واشنطن، سيكون استيقاظهم صعبا لأن طريق بايدن ستكون وعرة ولن تكون مرادفة للحكمة والاعتدال والكفاءة ولاتخاذ خطوات فورية لتجديد الديمقراطية وتعزيز تحالفات الولايات المتحدة، لأن من يراقب خطابات بايدن ومساره التاريخي، يلاحظ أن التزامات المرشح الديمقراطي غامضة وسيكون من الصعب عليه التحلل من تأثيرات اللوبيات ومجموعات الضغط النافذة، ولذلك لا مردود عمليا لتغيير سيد البيت الأبيض على العلاقة مع الأوروبيين إذا لم يترافق باستنهاض للبناء الأوروبي والبعدين السياسي والعسكري في الاتحاد الأوروبي، وإلا فإن كل طرح أميركي لبناء شراكة جديدة مع الاتحاد الأوروبي سيبقى نظريا وليس بالضرورة لصالح الجانب الأوروبي.
بناء على المقاربات المتناقضة، يمكن للأوروبيين المراهنين على بايدن أن يكتفوا بقبول جوائز ترضية مثل إعلان عودة واشنطن لاتفاقية باريس حول مكافحة التغيير المناخي، أو عود أميركي إلى تناغم مع الترويكا الأوروبية بخصوص الاتفاق النووي مع إيران (15 يوليو 2015). وبالطبع سيكون هناك تعويل على أجواء أفضل في قمم الناتو ومجموعة السبع. لكن في العمق تتوجب مراقبة تأقلم المؤسسات الأميركية ونظراتها للحرب التجارية وتصدع العولمة ومعاملة الأوروبيين بمثابة حلفاء راشدين على مستوى معين من الندية.
على صعيد آخر، لا يمكن للجانب الأوروبي الذي يعاني كثيرا من الهبوط الاقتصادي بسبب كوفيد – 19 ويجد صعوبة في تنفيذ برنامج “إعادة التنشيط الاقتصادي” للاتحاد الأوروبي، إلا أن يراقب باهتمام ما يجري في نيويورك وواشنطن حيث أن من يفوز بالبيت الأبيض سيحدد مسار مؤشرات البورصات العالمية والنفط والذهب.
وحسب أحد الخبراء الاقتصاديين أن “مرض ترامب أدى إلى هبوط المؤشرات والأسعار” ويعتقد أن فوز المرشح الديمقراطي يمكن أن يؤدي لخفض الأسهم الأميركية وقيمة المعادن. ويستند هذا التوقع على القناعة بأن قطاعات الأعمال وكبرى الشركات أقرب إلى النهج الترامبي المبشر بتفوق الاقتصاد الأميركي، بينما يتم النظر إلى الديمقراطيين على أنهم أقرب إلى الطبقات المتوسطة والفقيرة.
وأكثر ما تخشاه مجمل الأوساط الأوروبية أن يؤدي إلى مزيد من الاضطراب الاقتصادي العالمي في حال حصول بلبلة في واشنطن عشية الانتخابات أو نظرا للخلاف حول سيرها ونتائجها، خاصة أن ذلك يترافق مع تداعيات جائحة كورونا التي أوقفت حركة النقل والصناعة والأعمال في العالم كله، من دون استثناء، وانخفاض أسعار النفط والمعادن والسلع وارتفاع نسبة البطالة في كل العالم.
في الإجمال، تنظر أوروبا والعالم إلى ما يدور في الولايات المتحدة الأميركية خلال الأسابيع القادمة، وأيا كان الفائز يسود الإجماع أن استعادة دور واشنطن العالمي مطلوب من ناحية إيجابية لتفادي الأسوأ ولأن اندلاع أي أزمة كبيرة في واشنطن سيعاني كل العالم من آثارها ويزداد فيه التخبط.
د.خطار أبو دياب
العرب