حملة الفساد بطرابلس: صحوة متأخرة أم إخفاء لكبار الحيتان

حملة الفساد بطرابلس: صحوة متأخرة أم إخفاء لكبار الحيتان

يرى المراقبون السياسيون للشأن الليبي أن حملات ملاحقة العديد من الشخصيات النافذة في المنطقة الغربية، التي تدور حولها شبهات فساد تستهدف بالأساس مسؤولين من الصف الثالث والرابع، فيما يبقى مسؤولو الصفين الأول والثاني متحصنين بمواقعهم وبعلاقاتهم في الداخل، متسائلين حول جدواها أصلا خاصة لأن التحرك مثير للجدل في هذا التوقيت وباعتبارها نقطة على طرفي نقيض من كونها صحوة متأخرة من قبل القضاء بعد سنوات من إهدار المال العام أم محاولة للتغطية على الحيتان الكبيرة.

تونس- لا يكاد يمر يوم في ليبيا دون الإعلان عن قرار بضبط وإحضار أو بحبس أحد المسؤولين في العاصمة طرابلس، وقد بدأت هذه الظاهرة تتكرس منذ أيام ويردها البعض إلى الضغط الشعبي بعد مسيرات الاحتجاج على تفشي الفساد، التي كانت شهدتها طرابلس في أغسطس الماضي.

وبينما يعتقد المتابعون أن حملة الاعتقالات هي مجرد محاولة لتفادي أي انفجار اجتماعي بسبب السخط ضد اتساع رقعة العبث بالمال العام وانهيار منظومة الخدمات وخاصة الماء والكهرباء والصحة والوقود والسيولة النقدية، ترى أطراف أخرى أن ملاحقة المتورطين في الفساد تخفي وراءها ميلا إلى التستر على الحيتان الكبيرة من ذوي المسؤوليات المرموقة وكذلك من زعماء الميليشيات وقادة الإسلام السياسي.

ولئن كانت هذه الاعتقالات لها علاقة في جانب كبير منها بالحسابات السياسية، إلا أنها من الناحية الاقتصادية تشكل عبئا على الدولة الغارقة في مشاكل مالية لا حصر لها رغم وجود بوادر لتسوية سلمية لإنهاء الصراع، حيث تعتبر ليبيا من أسوأ الدول فسادا وفق منظمة الشفافية الدولية.

ثمة قناعة بين المراقبين أن أغلب من تم حبسهم هم ممن لا غطاء سياسيا وحزبيا لهم، معتبرين أن حملات الملاحقة لم تستهدف المحسوبين على قوى الإسلام السياسي وخاصة جماعة الإخوان المتغلغلة في مفاصل الدولة، ولا أمراء الحرب والزعامات الجهوية ورجال الأعمال المتنفذين وخاصة المتعاقدين منهم مع الأتراك.

وفي حين يعتقد البعض من هؤلاء أن الأمر يتعلق بصحوة متأخرة من قبل القضاء الليبي بعد سنوات من إهدار المال العام، اعتبر عضو مجلس النواب علي التكبالي أن القبض على بعض المسؤولين بحكومة الوفاق بتهمة الفساد حيلة لا تنطلي على أحد.

وأكد التكبالي أنها محاولة لإبعاد الأعين عن الفاسدين الحقيقيين، فالمساءلة يجب أن تطال جميع الرؤوس في حكومة الوفاق وكذلك المسؤولين الكبار في الحكومات السابقة بعد أن استشرى الفساد وأصبح من الصعب التخلص منه بالطريقة البطيئة التي تتبعها بعض الأجهزة الرقابية الآن.

وتعتبر ليبيا واحدة من أكثر دول العالم فسادا، حيث جاءت في المركز 168 بين 180 دولة، بحسب تقرير منظمة الشفافية الدولية للعام 2019، ويبدو تقييم المؤشر منطقيا بالنظر إلى الفوضى، التي تعيشها البلاد عقب الإطاحة بمعمر القذافي في 2011 وسيطرة الميليشيات على موارد الدولة النفطية العضو في منظمة أوبك.

وكان محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير، قد أكد قبل نحو أسبوعين خلال اجتماع مع أعضاء مجلس النواب الموازي بطرابلس، أن إجمالي الإنفاق خلال الفترة الفاصلة بين 2007 و2020 بلغ أكثر من 600 مليار دينار (440 مليار دولار بالأسعار الرسمية)، نافيا معرفته بحجم الفساد والهدر الذي اعترى تلك المصروفات.

وطالت الحملة حتى الآن شخصيات تعمل في مصرف ليبيا المركزي، ومؤسسات مالية مختلفة، ووزارتي التعليم والمالية ومستشفيات وصندوق التأمين الصحي وبلديات وشركات طاقة وكذلك شركة الخطوط الأفريقية وجهاز الطب العسكري، ما يعني أن الفساد ضرب كل مفاصل مؤسسات الدولة الليبية في المنطقة الغربية، الخاضعة لسيطرة حكومة الوفاق وبمساندة من ميليشيات مختلفة مدعومة من تركيا.

ومن بين الشخصيات مدير مصرف ليبيا الخارجي محمد بن يوسف ومدير قطاع الاستثمار بالمصرف الشارف شلبي، وهو صهر رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج، وأيضا رئيس لجنة ترشيد المرتبات بوزارة المالية الأمين بوعبدالله، ووكيل وزارة الصحة بحكومة الوفاق محمد هيثم عيسى الذي كان يرأس مجلس إدارة جهاز الطب العسكري سابقا وغيرهم.

دخلت النيابة العسكرية في طرابلس أيضا على خط الحملة بعد أن أمر النائب العام أيوب إمبيرش باعتقال رئيس لجنة ترشيد المرتبات بوزارة المالية

وفي أحدث حلقات هذه الحملة، أصدر قسم التحقيقات بمكتب النائب العام قرارات باعتقال عبداللطف التونسي مدير مكتب محافظ المركزي، ومصطفى معتوق رئيس مجلس إدارة الخطوط الأفريقية المتهم بإلحاق ضرر بالمال العام، وفوزي الرمالي مدير شركة أفريقيا للتجارة والاستثمار التابعة لصندوق ليبيا للمساعدات ومقرها موريشيوس، وهو متهم بسوء التصرف في أموال الشركة ومزاولته للوظيفة رغم إعفائه من مهام منصبه واستخدامه وثائق مزورة.

كما تم إيقاف وكيل وزارة تعليم الوفاق عادل جمعة في قضايا تتعلق بشبهة فساد في عقد توريد مقاعد دراسية، ووزير الحكم المحلي ميلاد الطاهر ووكيل وزارته صالح الصكلوك على خلفية تهمة نهب مال عام، بذريعة تمويل شركات خدمة عامة في المنطقة الشرقية دون وصول المبالغ المالية للجهة المستفيدة.

وتم حبس رئيس المجلس البلدي لمدينة بني وليد سالم نوير، على خلفية تصرفه في مبلغ 3 ملايين دينار (حوالي 2.2 مليون دولار) مخصصة للنازحين بالتواطؤ مع أفراد من أسرته. فضلا عن ذلك تم الحفظ على مدير مستشفى سبها كبرى مدن إقليم فزان الجنوبي، لتوقيعه على استلام مواد طبية ومعدات لمنطقته دون وجودها في المواقع المخصصة لها، وقرر بحبس رئيس الحرس البلدي ورئيس فرع الحرس البلدي عين زارة على ذمة التحقيق بتهمة استعمال السلطة ضد القانون.

وشملت إجراءات الحبس الاحتياطي كذلك مدير مصرف الصحاري (فرع المختار) بتهمة إساءة استعمال السلطة لتحقيق منفعة للغير، ومديري محطة الحرشة ومحطة الزاوية لتوليد الكهرباء بعد التحقيق معهما بتهمة إساءة استعمال سلطات الوظيفة والإضرار بالمصلحة العامة لامتناعهما عن تنفيذ برنامج طرح الأحمال.

وكان مدير النيابة العسكرية الجزئية بطرابلس أيوب العجيلي أصدر قرارا بوضع سبعة متهمين في قضية التجاوزات المالية وإهدار المال العام بجهاز الطب العسكري ضمن قائمة الممنوعين من السفر للخارج ومصادرة جوازات سفرهم، وفي مقدمتهم هيثم عيسى ومدير عام جهاز الطب العسكري اللواء عمر هويدي، ومدير إدارة المشروعات بالجهاز محمد سالم والمراقب المالي بالجهاز عمار التائب.

تساور الكثير من المتابعين والمراقبين شكوك في نجاح هذه المهمة خاصة وأن الملفات متشعبة بشكل كبير وحلها قد يخضع لمنطق الحسابات السياسية لاسيما وأن الأجهزة العليا للدولة، والتي يسيطر عليها إخوان ليبيا في المنطقة الغربية استغلت الوضع للحصول على مكاسب تدعم بها معاركها.

وقال رئيس قسم التحقيقات بمكتب النائب العام الصديق الصور في تصريحات تلفزيونية أنه تقرر إجراء تحقيقات في عدة ملفات تتعلق بالمال العام والجرائم الاقتصادية، وتم تكليف شركات دولية من أجل الوصول إلى الحقائق في عدد من القضايا المتعلقة بمؤسسة الاستثمار والمصرف الليبي الخارجي.

وهناك تعاون قضائي دولي للتحقيق في ملفات مصرف ليبيا المركزي في طرابلس والبيضاء، إضافة إلى الأداء الحكومي، وفق الصور، الذي قال إن “هذا التعاون كشف عن إهدار المصرف الليبي الخارجي لنحو 800 مليون دولار في استثمارات غير مصنفة ترتب عليها ضرر بالغ بالمال العام”.

وتعكف شركات دولية بتكليف من مكتب النائب العام، على التحقيق للوصول إلى الحقائق والدلائل وهناك تعاون قضائي مع الكثير من مكاتب النواب العامين في دول أخرى، وطلبات مساعدة قضائية وتم تحديد عدة أسماء مسؤولة عن استثمارات غير مدرجة.

ولكن هذا الأمر قد يبدو الواجهة التي تخفي جبل الفساد، فديوان المحاسبة، الذي يعد الجهاز الذي يراقب عمليات صرف الأموال، هو نفسه تحوم حوله شبكات فساد، وقد سبق لرئيسه خالد شكشك أن طلب من القائم بمكتب أعمال النائب العام البدء بعملية تحقيق مصاحبة لإجراءات الديوان المعنية بمساءلة أحد أعضائه بعد تورطه في شبهة فساد مرتبطة بعملية ابتزاز وطلب رشوة.

وأشار شكشك في رسالته الموجهة إلى مكتب النائب العام إلى أن “الديوان رفع الحصانة عن العضو المتورط لإتاحة المجال للبدء بالتحقيق معه وفقا للقوانين والتشريعات النافذة”، منوها إلى أن مشاركة مكتب النائب العام المختص في التحقيقات الجنائية تعد خطوة مهمة لمكافحة الفساد في المؤسسات العامة.

وهذا الكتاب جاء في ظل تواصل التحقيق في ملفات الفساد بصندوق التأمين الصحي بعد أن قرر ديوان المحاسبة إيقاف رئيس وأعضاء مجلس إدارة صندوق العام عن العمل، على خلفية تهم تتعلق بالتحايل والتدليس والإضرار بالمال العام. وقبل ذلك قرر الديوان إيقاف مدير عام شركة الإنماء للنفط والغاز، مالك الهمالي بعيو عن العمل لاتهامه في قضايا فساد ورشاوى وتجميد حسابات الصندوق.

ثمة قناعة بين المراقبين أن أغلب من تم حبسهم هم ممن لا غطاء سياسيا وحزبيا لهم، معتبرين أن حملات الملاحقة لم تستهدف المحسوبين على قوى الإسلام السياسي وخاصة جماعة الإخوان

وقد دخلت النيابة العسكرية في طرابلس أيضا على خط الحملة بعد أن أمر النائب العام أيوب إمبيرش باعتقال رئيس لجنة ترشيد المرتبات بوزارة المالية، التي استنكرت ذلك على لسان وزير مالية الوفاق فرج بومطاري قبل أن يرد المدعي العام العسكري خالد سليمان عليه بتهديد شديد اللهجة، قائلا “سنضرب بيد من حديد كل من تسول له نفسه التعدي والمساس بالمكتسبات والأموال والممتلكات العسكرية في الداخل والخارج”.

ودافع سليمان، عن موقف مكتبه بعد أن تلقى مكتبه العشرات من الشكاوى من أرامل المسلحين الذين قضوا في معارك طرابلس، إذ رفض رئيس لجنة ترشيد المرتبات استلام مستندات من أجل إتمام إجراءات رواتب من وصفهم بـ”الشهداء”، في إشارة إلى عناصر الميليشيات المسلحة التابعة لحكومة الوفاق

العرب