يكثف زعيم تيار “المستقبل”، رئيس الحكومة اللبنانية السابق سعد الحريري اتصالاته لاستكشاف مدى استعداد القوى السياسية، ولا سيما “حزب الله”، ورئيس الجمهورية العماد ميشال عون، و”التيار الوطني الحر”؛ لتسهيل تأليف حكومة مصغرة برئاسته، من الاختصاصيين المستقلين غير الحزبيين على قاعدة ما سمَّاه “تعويم المبادرة الفرنسية” بشقها السياسي، أي حكومة بالمواصفات المذكورة، وبشقّها الإصلاحي والاقتصادي تفتح باب المساعدة المالية الدولية للبنان وفق برنامج مع صندوق النقد الدولي.
وفيما تشهد الأيام الفاصلة عن موعد الاستشارات النيابية الدستورية التي سيُجريها عون الخميس في 15 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، لتسمية رئيس الحكومة العتيد، لقاءات من قبل الحريري نفسه، أو من موفدين له مع القوى السياسية لجسّ نبضها حيال العرض الذي قدمه في 8 أكتوبر لإحياء مبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون بحكومة يترأسها هو، فإنه حصل، الاثنين 12 أكتوبر، على تشجيع من الرئيس عون للمُضي بهذا العرض، كما قال بعد لقائه به.
ما الذي تغير بعد اعتذار مصطفى أديب؟
وفي وقت كرَّر فيه الحريري بعد لقائه عون ما كان أعلنه في مقابلته التلفزيونية التي أطلق خلالها الأسبوع الماضي عرضه إحياء المبادرة الفرنسية، لأنها الفرصة الوحيدة لإنقاذ البلد وإعادة إعمار بيروت، وأن بديلها هو الانهيار المالي والاقتصادي، فإن التكتم ساد مداولاته مع رئيس البرلمان نبيه بري، على الرغم من قول الأخير “أبلغنا الحريري أننا إيجابيون إزاء المبادرة الفرنسية كما كنا، ولا نزال”. لكن اللافت أن الحريري شدد على أن الأول “كان واضحاً أنه موافق وإيجابي جداً بالنسبة إلى الإصلاحات التي تتضمنها الورقة الاقتصادية، وهذا أمر مطمئن بالنسبة إليَّ”، لكنه لم يأتِ على ذكر موقفه من صيغة حكومة المستقلين غير الحزبيين، على أن تتضح مواقف سائر الكتل النيابية عشية الاستشارات، أي مساء الأربعاء في 14 أكتوبر. فهو كلف وفداً من كتلته النيابية للقائها.
ومع أن الحريري حدَّد هدف اللقاءات التي يستبق فيها استشارات تكليف رئيس الحكومة العتيدة، بالحصول على جواب واضح عما إذا كانت الكتل ما زالت مُلتزمة الاتفاق الذي جرى على المبادرة الفرنسية ليبني على جوابها قراره النهائي بالترشح لرئاسة الحكومة، فإن سؤال أوساطه عن المعطيات الجديدة التي دفعه إلى تقديم عرضه، وعن التغيير الذي حصل في صورة المواقف التي أدَّت إلى اعتذار الرئيس المكلف السابق مصطفى أديب، لا يلقى إلا جواباً واحداً: الوضع في البلد لا يحتمل التأجيل؛ لأنه ذاهب إلى وضع كارثي مع اقتراب انتهاء احتياطي مصرف لبنان بالدولار الذي يمول استيراد مواد أساسية.
محضر الاجتماع مع ماكرون
مبرر السؤال حول المعطيات الجديدة أن الجميع يؤيد استمرار المبادرة الفرنسية، فيما الخلاف وقع على تفسير وفهم بعض جوانبها.
“حزب الله” وحركة “أمل” اعتبرا أنها لا تشمل تسمية الوزراء المستقلين من قبل رئيس الحكومة بالاتفاق مع رئيس الجمهورية، وتحول دون تسمية الأفرقاء لوزراء طوائفهم، ولم تُشر إلى المُداورة، وهو ما دفعهما إلى التمسك بالاحتفاظ بحقيبة المال، وبتسمية الوزراء الشيعة، فضلاً عن أن “الحزب” برر إصراره على تسمية الوزراء بموقفه من بعض السياسات الإصلاحية والاتفاق مع صندوق النقد، لكن الحريري اعتبر في تصريحه أن “ما رأيناه في الإعلام من كلام وتسريبات ومواقف، لم تكن له علاقة بهذه المبادرة وببنودها الإصلاحية والاقتصادية، وكان كله كلام بالمحاصصة الحكومية والشروط الحزبية، أي كلام خارج الموضوع”.
وتضيف أوساط الحريري أن هناك محضراً لاجتماع قادة القوى السياسية مع ماكرون في 1 سبتمبر (أيلول) الماضي، خلال زيارة الرئيس الفرنسي إلى بيروت، يثبت موافقة الجميع على صيغة الحكومة وعلى البرنامج الإصلاحي. والاتفاق على حكومة مستقلين غير حزبيين يعني استبعاد تسمية الأحزاب الوزراء حتى لا يتأثروا بالتجاذبات السياسية ويُقحموا الوظيفة الإصلاحية للحكومة في دهاليز الخلافات بين الأفرقاء، فيتعذر تطبيق ما يشترطه المجتمع الدولي من إجراءات لتقديم الدعم المالي، كما حصل مع حكومة رئيس الوزراء المستقيل حسان دياب. كما أن الحريري نفسه جدد القبول بالتنازل الذي قدمه للجانب الفرنسي أي بتولي وزير شيعي حقيبة المال لمرة واحدة رافضاً تكريسها عرفاً دستورياً، ما يفقد الثنائي الشيعي ورقة المطالبة بأكثر من ذلك.
ما حقيقة الموقف الخارجي من المبادرة وعودة الحريري؟
باختصار، يُراهن بعض المقربين من الحريري على إدراك الأفرقاء، ولا سيما “حزب الله” وحليفه رئيس البرلمان نبيه بري، لخطورة إبقاء البلد بلا حكومة تتخذ القرارات الإصلاحية التي تدفع ماكرون إلى تنظيم مؤتمر دعم مالي إنقاذي وإعادة إعمار بيروت، لأن الانهيار سيضع القوى السياسية، وفي طليعتها “الحزب” في موقع الاتهام بأن تشدده سبب انزلاق البلد إلى الهاوية.
هل تكفي هذه المراهنة لتفسير اندفاعة الحريري نحو المغامرة مجدداً برصيده؟ وهل أن ما تردد عن أن إفشال مبادرة ماكرون مصدره خارجي، تارةً إيراني لأنها تقضم من نفوذه طهران، وتارةً أخرى أميركي؛ لأن ماكرون شرع دور “حزب الله”، وطوراً خليجي؛ لأنها لا تنهي تورط “الحزب” في سياسة إيران ضد دول الخليج. لم يعد قائماً، وبالتالي تغيرت مواقف هذه الدول؟ وهذا السؤال استتبع سؤالاً آخر: هل رفعت باريس تحفظها على تولي رئاسة الحكومة من قبل أحد أعضاء نادي رؤساء الحكومات السابقين ورموز الطبقة السياسية الذين قال عنهم ماكرون للقادة السياسيين خلال لقائه بهم، إن الشعب ينبذهم، كي تقبل بعودة الحريري إلى الرئاسة الثالثة؟
تفترض محاولة الحصول على أجوبة عن هذه الأسئلة بدايةً، أن الحريري استبق عرضه لإحياء المبادرة الفرنسية، بإجراء اتصالات مع كل هذه العواصم أو بعضها بعيداً من الأضواء، لاستكشاف خطوته قبل الإقدام عليها. إلا أن التكتم يسود حيال هذا الجانب في أوساطه ولدى المقربين منه الذين يكتفون بترداد المبرر الرئيس الذي دفعه إلى تقديم عرضه، وهو الحيلولة دون الانهيار الذي حذر منه ومن تداعياته على الصعيدين الاجتماعي والأمني، خصوصاً حين نبَّه إلى أن التدهور والخلافات يأخذان البلد إلى طروحات تقود إلى حرب أهلية أو إلى التقسيم والدولة إلى الزوال.
معطيات جديدة في المواقف الخارجية؟
لكن لدى بعض القياديين في تيار “المستقبل” معطيات عن المواقف الخارجية ترسم آمالاً بإمكان نجاح عرض الحريري، يعتبرها سياسيون مراقبون ومحايدون أقرب إلى التمنيات.
وفي وقت يشير هؤلاء إلى أن ماكرون كان ترك للمسؤولين السياسيين والرسميين بعد خيبة أمله واتهامه القيادات بخيانة تعهداتها، في مؤتمره الصحافي في 27 سبتمبر الماضي، مهلة 4 إلى 6 أسابيع كي يبادروا إلى استدراك الوضع بعد إفشال مصطفى أديب، فإن الوحيد بين هؤلاء المسؤولين الذي بادر إلى تحرك يفتح كوة في الجمود الحكومي كان الحريري، فيما كان الآخرون في حالة انتظار قاتل. وبينما التزمت باريس الصمت وأفادت التسريبات من المسؤولين فيها لسياسيين لبنانيين أن تحرك الحريري لم يحصل باتفاق معها، يؤكد قياديون في “المستقبل” تحدثت إليهم “اندبندنت عربية” أن الحريري أبلغ الجانب الفرنسي بنواياه. وفي الحد الأدنى لا يمكن لباريس أن تمانع تحركه لإحياء مبادرتها.
ويفترض بعض مؤيدي تحرك الحريري أن تبنيه المبادرة الفرنسية من دون أي تعديل فيها، يجدد العرض الذي قدمه ماكرون لـ”حزب الله” بأن فرنسا تعترف به حزباً سياسياً لبنانياً، مقابل تسهيله الحلول للأزمة المالية الاقتصادية، وأن على الحزب وإيران من ورائه، التقاط الفرصة الجديدة، وإلا فإن الحريري لن يستمر في عرضه، ويعلن بعد انتهاء اتصالاته نتائجها محملاً المسؤولية لمن عرقلها. وبينما يستبعد مراقبون تساهل طهران حيال طرح الحريري بسبب استمرار العقوبات الأميركية عليها، لا سيما بعد صدور دفعة جديدة منها ضد 17 مصرفاً إيرانياً تشل الحركة المالية مع الخارج، فإن القياديين في “المستقبل” يعودون إلى ما قاله الحريري في مقابلته التلفزيونية عن أنه إذا كان تشدد الحزب في لبنان سببه العقوبات، التي هدفها إفشال المبادرة الفرنسية، فهل على الحزب أن يساعد الأميركيين في إفشالها؟
الجواب حول صندوق النقد
تدعو أوساط سياسية مواكبة لتحرك الحريري إلى ترقب كيفية تعاطي “حزب الله” حياله لاعتقادهم أن إطلاق مفاوضات ترسيم الحدود البحرية والبرية الأربعاء المقبل في 14 أكتوبر، التي أعلن عون الأحد (11 أكتوبر) عن تأليف الوفد اللبناني إليها، لم يكن ليحصل من دون ضوء أخضر إيراني، استفاد منه بري كي يعلن عنه في 2 أكتوبر، وكي يتولى عون الإشراف على المفاوضات، وهذا يعني أن طهران أعطت إشارة إيجابية للجانب الأميركي يمكن الأمل في أن تنطبق على تسهيل تشكيل الحكومة اللبنانية وفق المواصفات إياها، لكن هذا الأمل يتوقف على جواب “الحزب” الذي ينتظره الحريري، على البرنامج الاقتصادي لخريطة الطريق التي وضعها ماكرون والأساس فيه الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، فإذا لم يحصل على رد إيجابي فسيكون ترؤسه الحكومة المقبلة عنوانه الفشل سلفاً. ويراهن متابعون لموقف طهران في هذا الصدد على الاتصالات التي تجريها روسيا معها لتساعد في تسهيل قيام الحكومة الجديدة.
مفاوضات الحدود وحاجة أميركا لحكومة؟
إلا أن بعض أوساط تيار “المستقبل” يرصد تعديلاً في الموقف الأميركي ومعه بعض الدول الخليجية حيال ترؤس الحريري حكومة من غير الحزبيين، بعد اعتذار أديب. فواشنطن يهمها قيام حكومة في مُوازاة مفاوضات ترسيم الحدود، التي تعلق أهمية كبرى على إنجاحها، لأن وصولها إلى نتائج إيجابية يتطلب تشريعها، وهذا غير ممكن من دون حكومة تقرها وتحيلها إلى المجلس النيابي، لذلك فهي لا تعترض على تحرك الحريري لإنهاء الفراغ الحكومي.
أما في ما يخص الموقف الخليجي فإن الأوساط المطلعة على اهتماماته في الشأن اللبناني باتت لا تمانع في عودة الحريري إلى الرئاسة الثالثة، آملةً أن ينجح في تحقيق البرنامج الذي وضعه ماكرون. فالدول الخليجية باتت تخشى من استفادة دول عدة من أي انهيار لبناني مقبل، سواء أكانت إيران أو تركيا.
وليد شقير
اندبندت عربي