يوماً بعد آخر تتراكم الوقائع والمؤشرات التي تؤكد أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية الراهنة لن تكون شبيهة بأي انتخابات أخرى شهدتها الولايات المتحدة على مدار قرون. ولا تنطوي هذه الدورة على أخطار جسيمة يمكن أن تمس في الجوهر القواعد القانونية والدستورية الانتخابات فقط، بل تنذر كذلك باندلاع أعمال عنف وعصيان ومواجهات مسلحة يمكن أن ترقى إلى حروب أهلية مصغرة تقودها ميليشيات ذات عقائد فاشية وعنصرية ودينية متعصبة.
وقد يجادل البعض بأن المتغير الأكبر الذي ساهم في إضفاء صفات استثنائية على هذه الدورة هو فيروس كورونا، وأنه لولا الظروف الصحية العصيبة وغير المألوفة فإن الانتخابات كانت ستجري كالمعتاد وبغض النظر عن صفات المتنافسين فيها، أي المرشح الجمهوري الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب والمرشح الديمقراطي نائب الرئيس الأسبق جو بايدن. وهذا صحيح بالطبع، ما عدا أن شخصية سيد البيت الأبيض طغت بقوة على المجريات التقليدية التي اعتادت أن تتخذها الدورات الانتخابية السابقة كافة.
فقد تكون هذه هي المرة الأولى التي تشهد رفض أحد المرشحين الإقرار بنتائج الانتخابات، تحت مزاعم مسبقة بأنها قد تكون خضعت لأعمال تزوير مختلفة، أو أن نظام التصويت عبر البريد يمكن أن ينطوي بدوره على التلاعب، أو التشكيك حتى في تقنيات التصويت الإلكتروني. ومن هنا فإن هذه السابقة تهدد نظام الانتخابات ذاتها ويمكن أن تقود البلاد إلى مسارات بالغة الخطورة لا تخلو من العنف والمواجهات المسلحة بين ولاية وأخرى أو بين أنصار هذا المرشح أو ذاك، كما أنها يمكن أن تنسف الكثير من ركائز النظام الديمقراطي الأمريكي ذاته وفي الطليعة منه مبدأ الانتقال السلمي للسلطة.
ذلك يفسر لهفة ترامب، ومن ورائه الأعضاء الجمهوريون في اللجنة القضائية التابعة لمجلس الشيوخ، على عقد جلسات استماع متعجلة تستهدف تصديق ترشيح القاضية إيمي كوني باريت في عضوية المحكمة العليا خلفاً للقاضية الراحلة روث بيدر غينسبرغ، وذلك على نقيض العرف الذي سنّه الجمهوريون أنفسهم حول عدم تسمية قاض جديد للمحكمة العليا خلال سنة انتخابات رئاسية. ولا يخفى أن الهدف هو ترجيح كفة المحافظين داخل المحكمة بمعدّل 6 مقابل 3، ليس لحسم القضايا المرفوعة والخلافية بصدد قوانين الرعاية الصحية والإجهاض والزواج المختلط فقط، بل كذلك احتمال رفع نتائج الانتخابات الرئاسية إلى المحكمة للبت في وقوع تزوير أو تلاعب، وهو ما يرمي إليه ترامب وأفصح عنه بكل وضوح.
لكن المتغير الأكبر المتمثل في جائحة كورونا هو في ذاته أحد أهم المؤشرات على استهتار الرئيس، وبصفته المرشح أيضاً، بتعليمات السلامة العامة وإجراءات الحجر والتباعد الاجتماعي والتقليل من أخطار جائحة فتكت حتى الساعة بأكثر من 214 ألف مواطن أمريكي، وتغلغلت إلى قلب البيت الأبيض فأصابت الرئيس نفسه وزوجته وعددا من كبار مساعديه. ومع ذلك فقد استأنف ترامب حملاته الانتخابية ضمن عقلية الاستهتار ذاتها، فحشد أنصاره في فلوريدا وتابع تحريضهم على الاقتداء به في رفض ارتداء الكمامة وعدم الاكتراث بالفيروس.
ولم يكن ينقص هذا المشهد الأمريكي سوى ما فضحته صحيفة «نيويورك تايمز» مؤخراً من أن مؤسسات ترامب وشركاته جنت الملايين من الأرباح خلال رئاسته، وأنه استحق بالفعل صفة «الرئيس/ رجل الأعمال». وبالتالي قد يكون القادم أعظم وأدهى خلف هذا كله.
القدس العربي