التنافس الأميركي الفرنسي على أفريقيا: حرب معلنة

التنافس الأميركي الفرنسي على أفريقيا: حرب معلنة

التنافس بين واشنطن وباريس بات واضحا للعيان في أفريقيا، وخاصة في المناطق المحسوبة تاريخيا كمجال حيوي فرنسي، وهو أمر كشف عنه الانزعاج الفرنسي من التحركات والاتفاقيات الأميركية الأخيرة في شمال أفريقيا، وخاصة في ليبيا، حيث بدا أن الأميركيين استحوذوا على ملف الحل السياسي، وهمشوا الدول المتدخلة الأخرى مثل فرنسا وتركيا وروسيا.

خرج التنافس الفرنسي الأميركي على أفريقيا إلى العلن، وصار من الواضح أن فرنسا منزعجة من التمدد الأميركي في مناطق سيطرتها التقليدية، خاصة في شمال أفريقيا، ودول جنوب الصحراء ذات الأهمية الاستراتيجية لما تنتجه من معادن ثمينة (ذهب ويورانيوم ونفط..) ولدورها الجغرافي الحيوي في فصل شمال أفريقيا عن جنوبها.

وزادت هذه الأهمية مع التحديات الأمنية الكبرى بعد سقوط نظلم معمر القذافي في ليبيا وانتشار الأسلحة لدى مجموعات قبلية وعرقية وفرت الأرضية لظهور مجموعات انفصالية في تنسيق واستفادة من المجموعات الإرهابية، ما وفر أرضية خصبة لتدخلات دولية تحت عنوان الحرب على الإرهاب، وهي حرب يحيط بها الكثير من الغموض خاصة مع الانتقال الفجئي للإرهاب من مناطق صراعات تقليدية إلى مناطق جديدة تكون ذات أهمية حيوية، ليبدو وكأنه إرهاب موجه وخادم لأجندات دولية، أي إرهاب تحت الطلب.

وقد ساهمت الحرب على الإرهاب في إظهار اختلاف المصالح بين واشنطن وباريس، خاصة مع فشل فرنسا في إنهاء “التمرد” في مالي والاتساع السريع في أنشطة التنظيمات المتشددة لتشمل دولا أخرى وبأشكال أكثر دموية وعنفا، ما أظهر فرنسا في صورة الدولة العاجزة وأعطى مشروعية لدور أكبر أمام الولايات المتحدة التي باتت تقدم قواتها الخاصة بأفريقيا “أفريكوم” كحل سحري للحرب على الإرهاب، وتتحرك لبناء تفاهمات واتفاقيات طويلة المدى تؤمن نشاط هذه الوحدة.

ناقوس جولة إسبر
مثلت الجولة المغاربية لوزير الدفاع الأميركي مارك إسبر جرس إنذار قوي لباريس التي استفاقت على تحرك قوي واتفاقيات طويلة المدى تضع منطقة شمال أفريقيا، وهي الملعب الحيوي لفرنسا، تحت يد أميركا، وهو ما يكشف عن تحولات في سياسات تونس والجزائر والمغرب تبتعد من خلالها الدول الثلاث عن الحليف التقليدي الذي لم يعد وزنه الدولي يغري دولا صاعدة بالتحالف معه بالرغم من مخلفات الإرث الاستعماري ونجاحه في تركيز بنية ثقافية عميقة تابعة أفرزت نخبا موالية لفرنسا.

ويقول الباحث في مركز كارنيغي يوسف الشريف إن “المنطقة (المغاربية) أصبحت استراتيجية خلال السنوات الأخيرة” مع زيادة انتشار الجماعات الجهادية المتطرفة في ليبيا ومنطقة الساحل.

وحققت جولة إسبر المغاربية اتفاقيات عسكرية تسمح للولايات المتحدة بالتحرك بحرية في الحرب على الإرهاب، ولكن، أيضا، في سياق السباق على النفوذ الدولي على الإقليم الاستراتيجي. ومن الطبيعي أن تكون فرنسا الخاسر الأكبر حيث بدأت مساحة نفوذها تتقلص وتتجه من شمال أفريقيا إلى دول الساحل والصحراء.

ونجح إسبر في الحصول على اتفاق عسكري مع تونس يقول إنه يهدف إلى مواجهة “المتطرفين” و”المنافسين الاستراتيجيين الصين وروسيا”، لكن الرسالة الأهم من هذا الاتفاق هي أن تونس صارت ضمن المجال الحيوي الأميركي.

ولا تخفي باريس انزعاجها من الطبقة السياسية التي حملتها احتجاجات 2011 إلى تونس، وهي طبقة تتسم بالمزاجية والتلون وتبحث عن “صداقات” بعيدا عن فرنسا، فبعضها “ثوري” يفعل عكس شعاراته، والبعض الآخر يتجه إلى واشنطن وأنقرة والدوحة في تحد للنفوذ التقليدي الفرنسي.

وظهر غضب الرئيس إيمانويل ماكرون جليا على الطبقة السياسية الجديدة، والتي يهيمن عليها الإسلاميون حين أخذ تونس كمثال على مخاطر “الإسلامية الانعزالية”، مشيرا إلى أن تونس لم تعد كما كانت قبل ثلاثين سنة، في إشارة إلى توسع دائرة خطاب “الأسلمة” على الانفتاح والتسامح.

ويوجد في تونس لواء قتالي في سياق الحرب على الإرهاب قالت قوات أفريكوم إنها مستعدة لتحريكه في سياق الرد على الوجود الروسي.

وجاء في بيان لأفريكوم أنه “بينما تواصل روسيا تأجيج نيران النزاع الليبي، فإن الأمن الإقليمي في شمال أفريقيا يشكل مصدر قلق متزايد”، وأن هذه القوات تبحث “عن طرق جديدة للتعاطي مع قلقنا المتبادل بشأن الأمن مع تونس بما في ذلك استخدام اللواء المساعد لقوات الأمن”. قبل أن تتراجع في بيان ثان لتقول إن وجود هذه القوة لا يتجاوز دور التدريب على الحرب ضد الإرهاب.

وأيا كانت تفاصيل الاتفاق الأميركي التونسي، فإن واشنطن تكون بذلك قد نجحت في تأمين مجال حر للتحرك انطلاقا من الأراضي التونسية دون ضجيج، تحت عنوان الشراكة في الحرب على الإرهاب.

وبالتوازي مع خسارة الملعب التونسي، تجد فرنسا مشاكل في علاقتها مع الجزائر في النظر إلى الحرب جنوب الصحراء، ذلك أن المسؤولين الجزائريين، منذ عبدالعزيز بوتفليقة وإلى فترة عبدالمجيد تبون يريدون المشاركة في حل مشاكل دول الساحل والصحراء بوصفهم شريكا لا تابعا لفرنسا، وساهمت الجزائر في التوصل إلى حل في مالي أفضى إلى حل بين الحكومة المركزية والمجموعات الانفصالية، ولا تريد لأحد الالتفاف عليه.

كما أن اتجاه الجزائر إلى تحرير جيشها من ضوابط المحلية وفتح الباب أمام تدخلاته الخارجية قد يتيح للجزائر التحرك كقوة على الأرض ومنافسة فرنسا على تقاسم المصالح في دول الساحل والصحراء، وهو عنصر يزيد من هواجس فرنسا التي دفعت بوزيرها للخارجية جان إيف لودريان في جولة مغاربية جديدة لفهم طبيعة التحولات في الجزائر.

ويقول خبراء بشؤون المنطقة إن باريس باتت تفهم “استقلال” الموقف الجزائري في مالي على أنه تحالف مع واشنطن، وأن ثمة مشتركا بينهما، وهو ترك فرنسا لوحدها في مستنقع الساحل والصحراء.

وكان مارك إسبر التقى الرئيس الجزائري تبون، وهذه أول زيارة لوزير دفاع أميركي للجزائر منذ زيارة دونالد رامسفيلد عام 2006.

وقال دبلوماسي غربي في الجزائر مطلع على الأمر لرويترز “مارك إسبر يريد مناقشة الدور المحتمل للجيش الجزائري في المنطقة بمجرد إقرار الدستور الجديد، لأنه يسمح بعمليات لحفظ السلام في الخارج”.

وفي مقابل تبدل المواقف في تونس والجزائر، فإن فرنسا لم تكن تنتظر نتائج مغايرة لزيارة وزير الدفاع الأميركي إلى المغرب الذي تتحرك قيادته باستقلالية تامة تجاه أفريقيا وفق حساباتها الداخلية بقطع النظر عن الأجندات الأخرى.

صدمة ليبيا
لم يكن مسار الحل السياسي الذي يجري ترتيبه في ليبيا متماشيا مع طموح فرنسا، والتضحيات التي قدمتها، خاصة أنها كانت أول المتحمسين لتدخل “دولي” في ليبيا لإطاحة حكم العقيد الراحل معمر القذافي وإنجاح “الربيع الليبي” بعد أن تلكأت في دعم “ربيع تونس” قبله ووقفت إلى آخر لحظة مع نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.

وكانت فرنسا تأمل في أن يكون لها دور فعال في بناء “ليبيا الجديدة” والاستئثار بموقع متقدم في الاستثمارات النفطية وإعادة الإعمار، لكن تطورات الحرب على الأرض وتدخل أطراف إقليمية ودولية أخرى أفضى إلى تعقيد الوضع بشكل لم يعد أحد قادرا على فرض رؤيته سوى الولايات المتحدة التي تتهم فرنسيا بأنها وضعت يدها على التسوية السياسية في ليبيا، وأنها تتجه لتحييد المشير خليفة حفتر الذي راهنت عليه باريس كورقة مستقبلية رابحة.

وتحاول باريس أن تحرك دول شمال أفريقيا للعب دور ما في الحل الليبي، وهي تعرف أن الأمر لا يتعلق بتفاصيل اختيار الشخصيات الحاكمة في المرحلة المقبلة، ولا في توسيع دائرة الاجتماعات وإضافة لقاءات جديدة في تونس، وأن الحل محكوم أميركيا بمصالح تتعلق بالنفط والاستثمار في المجالات الحيوية، وأن البقية تفاصيل سيجبر الليبيون على القبول بها كأمر واقع.

فرنسا تتهم الولايات المتحدة بأنها وضعت يدها على التسوية السياسية في ليبيا، وأنها تتجه لتحييد حفتر الذي راهنت عليه باريس كورقة رابحة

ودعا وزير الخارجية الفرنسي خلال زيارته الجزائر إلى مشاركة أوسع لدول جوار ليبيا في البحث عن تسوية سياسية للأزمة القائمة فيها.

وقال لودريان عقب لقائه الرئيس تبون، إنّ “دور دول الجوار أساسي لأنها أولى الجهات المعنية بالمخاطر التي تشكلها هذه الأزمة ويمكنها أن تلعب دور استقرار مع الجهات الليبية على عكس تدخل القوى الخارجية”.

ويرى محللون سياسيون أن دول الجوار ستكتفي برعاية الجانب التنفيذي في الاتفاقيات التفصيلية، وهي راضية بذلك بعد أن فشلت في إدارة الخلاف بين الفرقاء الليبيين في السنوات الأولى للأزمة، وسعى أغلبها إلى التدخل السلبي بدعم طرف على حساب آخر، فضلا عن التنافس في تقديم مبادرات فردية لكل دولة ومحاولة استثمارها سياسيا.

وأخرج هذا الفشل دول الجوار من حل ليبي يراعي مصالحها، وفتح الباب أمام التدخلات الفرنسية والتركية والروسية، وهي التدخلات التي ستمكن بلدانها من الحصول على قطعة من التورتة الليبية الشهية فيما سيكتفي الجيران بالفتات.

يتجاوز الموقف في دول الساحل والصحراء، وخاصة في مالي، البعد الأمني، إلى دائرة المصالح والتنافس الاستراتيجي على المعادن مثل الذهب واليورانيوم والنفط. لكن هذه المزايا جعلت المنطقة قبلة لأنشطة مختلفة جعلت من الجماعات الإرهابية تتحول إلى خطر استراتيجي خاصة على أوروبا، من ذلك تجارة الأسلحة والمخدرات والذهب، وتحصيل الفدى من عمليات الاختطاف، وهي عناصر حيوية تستفيد منها تلك الجماعات في الإنفاق على شراء الأسلحة وتمويل العمليات الإرهابية واستقطاب المقاتلين وشراء ذمم القبائل والمجموعات العرقية.

وأجمعت تقارير دولية كثيرة على أن التيارات الإرهابية المسلحة الناشطة في الساحل الأفريقي توفر حاجياتها المالية اعتمادا على منقبيها الناشطين في مناجم البحث عن الذهب النفيس خاصة في مالي والنيجر وبوركينا فاسو.

لأجل ذلك، ومنذ سقوط نظام القذافي وانتشار الأسلحة التي كان يمتلكها لدى شبكات الإرهاب والتهريب، بادرت فرنسا إلى التدخل العسكري المباشر عبر عمليات حملت عدة أسماء مثل “سرفال” في مالي، و”الباشق” في تشاد، ثم عملية “برخان” التي تشترك فيها دول أوروبية مثل بريطانيا وألمانيا.

ولكن هذه العمليات لم تنجح في توجيه ضربات نوعية للجماعات الإرهابية، وعلى العكس فقد وجدت تلك الجماعات في التدخل الفرنسي فرصة للمزيد من الاستقطاب. ويعزو خبراء محدودية هذه العمليات إلى طابعها الاستعراضي الذي يهدف إلى إظهار أن فرنسا ما تزال تمتلك القوة والنفوذ في الساحل والصحراء، دون مراعاة التطورات النوعية للأنشطة الإرهابية العابرة للدول، وهو ما يستدعي تحالفا دوليا أوسع وأكثر فعالية لا يضع أولوية له الاستثمار السياسي من هذه الدولة أو تلك.

وبات الأمر يحتاج إلى وجود أكثر فعالية لقوة أفريكوم الأميركية، وهو الأمر الذي يزعج فرنسا لكونه سيفتح الباب أمام السيطرة الأميركية، خاصة أن واشنطن لديها قوات في مالي والنيجر وتقيم تدريبات للقوات المحلية.

وفهم تلويح أفريكوم بالانسحاب من الساحل والصحراء في فبراير الماضي على أنه إحراج لفرنسا التي تريد أن تكتفي الولايات المتحدة، التي تقدم المعلومات المخابراتية والتسهيلات اللوجيستية للفرنسيين، بدور الإسناد.

وإذا كانت فرنسا قد اختارت التدخل العسكري المباشر مع الاستعانة بقوات محلية، فإن الاستراتيجية الأميركية تقوم على النقيض، إذ تتولى تدريب القوات المحلية والرفع من كفاءتها القتالية بإشراف مدربين وقوات خاصة أميركية، وهو ما يتيح لواشنطن تنويع بدائلها، إذ يمكن أن تخوض معارك في أكثر من منطقة (غرب وشرق القارة) في نفس الوقت، وهي وضعية تتيح الوقت للأميركيين لاختيار المكان المناسب لإيجاد مقر لقوات أفريكوم سواء في شمال أفريقيا أو في دول الساحل والصحراء أو في السودان وفي ذلك تسريبات عن أن هذه النقطة هي إحدى نقاط التفاوض بين واشنطن والخرطوم.

ويعتقد خبراء في الجماعات الإرهابية أن التنافس الفرنسي الأميركي يوفر فرصا أفضل للمتشددين من أجل أن يوسعوا دائرة تحركاتهم التي باتت تضرب في غرب أفريقيا ووسطها وشرقها بشكل يظهر وجود عقل ناظم حتى وإن كانت تلك الجماعات حاملة لهويات محلية وأفكار متضاربة، فما يجمع بينها هو ممارسة المزيد من العنف، وتحقيق المكاسب المالية، وإظهار أن تكتيكاتها نجحت في هزم الجيوش المحلية، وأنها تتحدى التدخلات الغربية الاستخبارية والعسكرية، وهو أمر سيكون له نتائج خطيرة على المدى البعيد.

وما يزيد الأمر تعقيدا هو تدخلات دول صاعدة أخرى مثل الجزائر وتركيا وإيران تبحث عن أدوار ثانوية من بوابة الحرب على الإرهاب للتغطية على مساعيها للنفوذ الاقتصادي والتعليمي والديني.

العرب