في الذكرى 50 لرئاسته.. الوجه الغائب للسادات بين عبد الناصر والإخوان وأرانب السجن

في الذكرى 50 لرئاسته.. الوجه الغائب للسادات بين عبد الناصر والإخوان وأرانب السجن

صبي أسمر، ضئيل الجسم، حافي القدمين، يسير خلف جدته التي تحمل “زلعة” العسل وسط الحقول الخضراء، ورغم ما يحمله المشهد من علامات الفقر، فإن الولد يشعر بسعادة فريدة، كما تقول له الجدة دائما “لا شيء يساوي أنك ابن الأرض، والأرض خلود لأن الله أودعها كل سره”.

سيكبر الصبي ويمشي طريقا مزدحما بالأحداث، لكنه لا ينسى أبدا خطوات الجدة حتى يصير رئيسا للبلاد، ويحاول أن يسترد الأرض من العدو الذي اغتصبها.

وفي الذكرى 50 لتولي الرئيس الراحل محمد أنور السادات حكم مصر، أواسط أكتوبر/تشرين الأول 1970، رأينا أن نترك الفرصة للرجل كي يتحدث عن نفسه وسيرته، وذلك من خلال كتاب “البحث عن الذات” الذي ألفه قبل وفاته بـ4 أعوام.

وتكون عادة كتب السيرة للمشاهير عبارة عن حكي ملائكي للحياة التي عاشوها، فهم أبطال، وفي الوقت نفسه ضحايا، ولا يستثنى من ذلك “البحث عن الذات”، الذي روي فيه السادات عبر نحو 400 صفحة مسيرته، التي اعتبرها قصة حياة مصر.

غير أن “البحث عن الذات” الذي صدر عام 1978، يمتلئ بأحداث درامية يخرج كثير منها عن ذلك الحكي الملائكي، لأنها ببساطة جزء من التاريخ الذي لا يمكن إنكاره.

فربما لا يكون من المعقول أن نتهم السادات بادعاء البطولة عندما يحكي عن اعتقاله مرتين خلال الحكم الملكي للبلاد، وفصله من العمل بالقوات المسلحة بسبب تحركاته السياسية المناهضة للاحتلال البريطاني، ومعاناته مع رحلة التشرد والجوع.

رحلة العجائب
كان لجدة السادات التي رأى فيها الحكمة والفطرة والتجربة والحياة أثر عظيم في تكوين شخصيته، ولم ينس أبدا صوتها وهي تحكي له قصة زهران بطل حادثة دنشواي، التي وقعت عام 1906، وكانت مثالا لرد الفعل الغاشم من جانب الاحتلال الإنجليزي آنذاك في مواجهة فلاحين مصريين بسطاء.

لذلك تأثرا كثيرا بعدما ترك قريته ميت أبو الكوم في محافظة المنوفية ليبدأ وهو دون 10 سنوات رحلة المعاناة مع القاهرة، تلك المدينة التي لم يشعر فيها بالسعادة كما شعر بها في ريف بلدته الصغيرة.

ورحلة السادات في القاهرة ممتلئة بالقصص التي قد يُحكم عليها بالطرافة أو البطولة، لكنها في الحالتين تثير العجب.

اعلان
ففي عام 1932 زار الزعيم الهندي غاندي مصر عندما كان في طريقه إلى إنجلترا، حينئذ قرأ السادات -الذي لم يكن تجاوز 14 عاما- تاريخ ونضال الرجل، واستولت صورته على وجدانه، فقلده وخلع ملابسه وغطى نصفه الأسفل بإزار وصنع مغزلا واعتكف فوق سطح بيته عدة أيام، حتى تمكن والده من إقناعه بالعدول عما هو فيه.

الضباط الأحرار
وفي كتابه، يتطرق السادات لتنظيم الضباط الأحرار، ويعتبر نفسه المؤسس الأول له، وليس جمال عبد الناصر ولا حتى آخرين حكت عنهم روايات سابقة.

فبعد تخرجه من الكلية الحربية عام 1938، رأى ضرورة تكوين تنظيم يهدف إلى عمل ثورة يقوم بها الجيش، وهو ما كان يفعله بتوعية زملائه الضباط بالتاريخ السياسي، وذكر أن عبد الناصر كان يخدم مع وحدته العسكرية في السودان، وعاد عام 1942 حيث تسلم التنظيم بعد اعتقال السادات.

وفي صيف 1941، خطط السادات لأول ثورة؛ فبعد قرار البرلمان سحب الجيش من الصحراء الغربية، حيث كان يشارك الإنجليز حربهم ضد دول المحور، اتفق مع جميع الوحدات العائدة من مرسى مطروح على اللقاء في ساعة محددة عند نهاية طريق القاهرة الإسكندرية الصحراوي.

ومن هناك تدخل القوات القاهرة لتضرب الإنجليز وتستولي على السلطة، وأعد لذلك خطة بكافة تفاصيلها، وانتظر مع وحدته في الوقت المحدد، لكنه لم يأت أحد، وفشلت ثورته الأولى.

أرانب في السجن
وفي السجون التي دخلها السادات معتقلا سياسيا نوادر كثيرة، حيث قضى نحو 6 سنوات بها، فقرر أن يقضي وقت فراغه في تعلم لغات جديدة، هي: الإنجليزية والألمانية، ثم ساعدته الظروف في سجن الزيتون على أن يربي الأرانب مع سجناء آخرين.

يحكي السادات أنهم بدؤوا بزوجين من الأرانب ثم تكاثرت حتى ملأت القاعة الوحيدة الفسيحة بالسجن، وكانوا يطهونها ويأكلونها على العشاء، وهناك عاد إلى أصله الريفي، فزرع البرسيم في حديقة السجن ليكون طعاما للأرانب ثم زرع البطاطا.

لكن ربما كان الأكثر إثارة مما يحكيه السادات عن قصته مع السجن هو نجاحه في الهرب، ويذهب إلى قصر عابدين حيث مقر الحكم، وليس إلى بيته، كي يكتب في سجل التشريفات احتجاجه على المعاملة السيئة من قبل أحد الحراس، ثم يعود إلى المعتقل مرة أخرى بإرادته.

بعد تلك الحادثة، هرب مرة أخرى، لكنه لم يعد في هذه المرة، وظل هاربا ليعمل في أعمال يدوية شاقة، بينها رصف الطرق وشق القنوات المائية ونقل رخام المحاجر، إلى أن سقطت الأحكام العرفية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

اغتيال النحاس
من المشهور عن السادات أنه اشترك في قتل وزير المالية الموالي للإنجليز في حقبة الأربعينيات أمين عثمان، وإثر ذلك بقي 3 سنوات في المعتقل، بعد أن أمضى ما يماثلها بتهمة أخرى هي الاتصال بالألمان خلال الحرب العالمية.

لكن السادات يروي قصة أخرى في كتاب سيرته، وهي الخاصة بمحاولة اغتيال رئيس حزب الوفد مصطفى النحاس باشا، وهو الذي كان يعتبره رمزا وطنيا، ثم انقلبت الحال تماما بعد حادثة 4 فبراير/شباط 1942.

وبالفعل، ترقب السادات ورفاقه سيارة النحاس، وألقوا بالفعل قنابلهم لكنها لم تصب السيارة المستهدفة لأن سائقها انحرف بها بسبب اعتراض عربة ترام طريقه بشكل مفاجئ مما جعلها خارج دائرة الانفجار.

السادات والإخوان
قبل اعتقاله وفصله من العمل بالجيش اعتاد السادات أن يلقي خطبة على جنوده في ذكرى المولد النبوي الشريف، وتصادف وجود عدد من المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين بين هؤلاء الجنود، فوجد أحدهم يهمس في أذنه أن أحد الرجال بالباب يريد أن يلقي كلمة بمناسبة الذكرى الدينية، وعندما علم أنه مؤسس الجماعة حسن البنا رحب به وجعله يلقي الكلمة بدلا منه، وكان ذلك عام 1940.

رأى الرئيس الراحل أن حسن البنا رجل دين ممتاز في اختيار الموضوعات وشرح الدين وفهمه وإلقائه، وشهد له بدماثة الخلق وسماحة وحسن معاملة الناس من كل النواحي، واعتبره مؤهلا للزعامة الدينية.

وبدوره، دعا المرشد الأول للإخوان السادات لحضور درس الثلاثاء الذي كان يلقيه كل أسبوع بعد صلاة المغرب بمركز الجمعية بالحلمية الجديدة، وذهب فعلا، بل كان يلقاه في جلسات خاصة بمكتبه بعد الدرس.

ورأى السادات أن الإخوان قوة لا يستهان بها، بل إنها نجحت في تجنيد بعض الضباط والجنود في الفرع العسكري لتنظيمهم العسكري؛ لذلك صارح السادات البنا بأنه يريد عمل تنظيم عسكري هدفه قلب أوضاع الحكم في البلاد.

في البداية، تشكك البنا في نواياه، ثم سأله عن عدد الضباط والأسلحة التي معه ومدى قوتهم. من جانبه، أعلمه السادات بأنه الرجل الأول في تنظيم الضباط الأحرار والرجل الثاني هو عبد المنعم عبد الرؤوف الذي تم تجنيده من قبل الإخوان بعد ذلك، حسب ما يؤكده صاحب “البحث عن الذات”.

ويبدو أن الأحداث كانت أسرع من استكمال العلاقة بين السادات والبنا، حيث حاول الأول التواصل مع الألمان إبان الحرب العالمية الثانية؛ مما أدى إلى القبض عليه، لكن ظلت العلاقة طيبة مع مرشد الإخوان.

وليس أدل على طيب العلاقة من اتصال حسن البنا بطلعت شقيق السادات ليخبره بأن جمعية الإخوان المسلمين خصصت 10 جنيهات شهريا لأسرة السادات خلال فترة اعتقاله.

أنور وجمال
قابل السادات عبد الناصر خلال خدمتهما في الوحدات العسكرية بمنقباد في السودان، حينها توسم فيه الجدية لكنه -أي جمال- كان من وجهة نظر السادات لا يميل إلى المزاح منطويا على نفسه ويقيم حاجزا بينه وبين الناس، مما جعل أغلب زملائه يبتعدون عنه ويتحاشون الكلام معه حتى لا يساء فهمهم.

وذكر السادات أنه كان يكن كل الحب لعبد الناصر وسعد عندما أصبح رئيسا لمصر ثم زعيما للأمة العربية، مؤكدا أنه بخلاف كل من كانوا حول عبد الناصر لم يدخل في صراع معه طيلة حياته.

مع ذلك، لا يخفي السادات أن عبد الناصر كان ممتلئا بالتناقضات وقضى حياته من انفعال إلى انفعال، حيث كان يفترض الشك في كل إنسان، “وكانت النتيجة الطبيعية أن خلف تركة رهيبة من الحقد.. لقد بنى عبد الناصر جبلا من الحقد على كل المستويات، حتى على مستوى الأسرة الواحدة؛ فكان من الممكن أن يتجسس الابن على أبيه”، هكذا كتب السادات.

السوفيات قتلوا عبد الناصر
وفي رأي السادات، فإن الاتحاد السوفياتي هو من قتل عبد الناصر، حيث عاملوه معاملة بعيدة تماما عن الكرم والكرامة، مما كان من أهم العوامل التي أثرت على صحته النفسية ومن ثم البدنية، وساعد على إصابته بالقلب والسكري، وهما اللذان أجهزا عليه.

ونقل عن عبد الناصر قوله إن الروس حالة ميؤوس منها، وإنه قبِل مبادرة روجرز الأميركية لأنه على استعداد -بعد معاملة الروس المهينة له- أن يقبل حلا حتى من الشيطان.

وبعد موت عبد الناصر تنقلت رحلة “البحث عن الذات” بين تفاصيل بدايات فترة رئاسة ابن ميت أبو الكوم لمصر وحرب أكتوبر وبدء طريق السلام مع إسرائيل.

امتلأ كتاب سيرة السادات بكثير من الأحداث والمشاعر، لكن أكثرها إدهاشا تلك الخاصة بقصة زهران بطل دنشوان، فظل الرئيس الراحل طيلة حياته متشبعا بصورة البطل الذي يصعد إلى المشنقة بخطى ثابتة لا يخاف الموت الذي سيلاقيه بعد دقائق، وهو ما يشبه نهاية السادات، حيث تقدم نحو قاتليه بخطى ثابتة خلال العرض العسكري في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1981، والذي شهد إسدال الستار على حياته الحافلة.

دعاء عبداللطيف

الجزيرة