تركت عملية مكافحة الفساد في تونس خلال السنوات العشر الأخيرة الكثير من علامات الاستفهام حول مدى قدرة الدولة على التصدي لهذه الظاهرة التي تشمل غسل الأموال والتهرب الضريبي، كونها مكلفة ونتائجها تبدو أنها محدودة. هذا ما يدفع إلى إثارة أمر على درجة من الأهمية لفهم ما يحصل، وهو هل الحلول المطروحة شعبوية من الطبقة السياسية لتحقيق بعض المكاسب أم هي محاولة جدية لتعزيز الحوكمة في إدارة أموال الدولة.
تونس- تقف تونس اليوم أمام مشكلة معقدة لتحسين مؤشرات مكافحة الفساد، فلم يتمكن السياسيون ولا الحكومات المتعاقبة منذ 2011 من وضع أسس عملية واضحة لمحاصرة تسرب الأموال عبر القنوات غير الرسمية، والتي تزايدت بفعل أنشطة المراهنات السوداء نتيجة قيود الإغلاق والحالة الاجتماعية السائدة بسبب الوضع المادي السيء للدولة.
وتركزت جهود الأحزاب السياسية، والقوى التي ظهرت في المشهد عقب الإطاحة بالرئيس الراحل زين العابدين بن علي من مرحلة الانتقال إلى النظام الديمقراطي على التحديات السياسية بشكل أساسي وانشغلت بمعاركها للحصول على تأييد من قبل الرأي العام.
ومع أن الارتباك الحاصل في إدارة الدولة والأداء غير الإيجابي في الكثير من المراحل كلفا الكثير من الوقت والجهد، لكن تونس تمكنت نسبيا من تثبيت بعض أسس المكتسبات الديمقراطية رغم التحديات المتصلة بالاستقطاب السياسي حول الهوية والقضايا الدينية، وصعود وتزايد انعدام الأمان جرّاء الهجمات التي شنتها جماعات متطرفة، وحتى خيبة الأمل العامة للناخبين من النخب السياسية القائمة.
ولكن بعض المكتسبات التي يمكن ملاحظتها على الصعيد السياسي جاءت على حساب انتكاسات اقتصادية، فخلال السنوات العشر الأخيرة، تم رصد تأخر كبير في معالجة ملفات فساد كثيرة رغم كلفة الجهود الحثيثة، ما يمثل دلالة على محدودية جدوى استراتيجية مكافحة الفساد المعتمدة، والتي تطلبت إنفاقا ضخما على إنشاء مؤسسات جديدة مستحدثة للتصدي للجرائم الإلكترونية، التي تستنزف أموال الدولة الضعيفة اقتصاديا.
وهنا، لا بد من التوقف قليلا عند أحد بنود مشروع قانون ميزانية العام المقبل، والتي كشفت عن بعض تفاصيله حكومة هشام المشيشي، والمتعلق بتوظيف ضريبة تقدر بنحو 15 في المئة على المراهنات الرقمية بعد أن كانت هذه النقطة مثار جدل في الكواليس ولكن لم يستطع أحد من السياسيين، الذين تقلدوا مناصب حكومية من حلها وتعقب من يعملون فيها.
صحيح أن ظواهر التهرب الضريبي والمحسوبية وغسل الأموال كانت تضرب مفاصل تونس – بن علي عبر دولة عميقة تدار من قبل لوبي بزعامة عائلته وأصهاره، أغرقت أجهزة الدولة في الفساد. لكن منذ 2011 أخذت بعدا آخر، فقد اغتنمت المافيات فرصة هشاشة الأوضاع وضعف تطبيق القانون لتؤسس دولة فاسدة متناقضة مع الشرعية.
ولذلك ليس من المستغرب أن يكون الاقتصاد التونسي في حالة غير جيدة، فهو يواجه مجموعة من التحديات الرئيسية التي تحتاج إلى حل. فعدم تلبية مطالب العدالة الاجتماعية وتزايد الفساد والمسار غير المستدام للاقتصاد الكلي كلها عوامل تهدد مسار الاستقرار. ولا يمكن الحديث بالطبع عن مكاسب سياسية في ظل صراعات لا حدود لها بين القوى السياسية الفاعلة في المشهد الهجين.
ويتفجّر الجدل داخل مجتمع السياسيين، الذين لا ينفكون في البحث عن ملعب جديد للخصومات بين الفينة والأخرى، وهذه المرة اختاروا الشركات الخاصة للمراهنات، التي غزت البلاد، في ظل ازدهار نشاط المراهنات الرقمية الموازية بشكل غير مسبوق، رغم احتكار شركة واحدة منذ عقود لهذا النشاط.
وبتتبع نشاط المؤسسات الرسمية يلاحظ أنّ تونس لم تحرز أيّ تقدم منذ الإطاحة ببن علي في ترتيب مؤشّر مدركات الفساد، فقد تقهقرت بشكل كبير ن المركز 59 في عام 2010 إلى المركز 73 في العام الموالي لتصنف في العام 2012 في المرتبة 75 عالميا، وهو نفس الترتيب لسنتي 2015 و2016، لكنها عادت وتقدمت في العام الماضي بنقطة واحدة.
لقد بررت وزارة الاقتصاد والمالية ودعم الاستثمار الدفع باتجاه خطوة إقرار ضرائب على المراهنات الرقمية إلى غياب نظام جبائي خاص بقطاع ألعاب الرهان على شبكة الإنترنت، لكنه في المقابل يثير الجدل حول توقيت إصداره. هل الأمر متعلق بخزينة الدولة الفارغة، وبالتالي العمل على خطوة تحسين تصنيفات تونس على المؤشرات الدولية أم أنه ورقة سياسية يمكن استخدامها وقت الضرورة؟
تونس
ومن الواضح أن هذا الأمر يأتي ضمن سياق المساعي المضنية للسلطات عبر إقرار حزمة من القرارات والتشريعات والقوانين، التي أصدرتها طيلة السنوات القليلة الماضية بهدف معرفة تحركات الأموال المشبوهة في العديد من القطاعات البعيدة عن أعين الرقابة، ومن بينها نوادي الرهان، والتي تشكل بؤرة لتبييض الأموال في البلاد.
ولكن حتى الآن يصعب حصر حجم سوق المراهنات مع أن هناك قوانين تضبط قيمة الأرباح والضرائب وكيفية توزيع بقية الأموال، التي تحصل عليها شركات المراهنات في حال خسارة المتراهنين. وهذا ما يدفع إلى ربط ذلك بمسألة التهرب الضريبي، الذي قدرته السلطات بأنه بلغ منذ 2011 وحتى 2018 إلى حدود 8.3 مليار دولار، وهي مستويات تنسجم مع تقديرات الخبراء.
وبدأت فكرة إطلاق المسابقات الرياضية بشكل رسمي قبل عامين بعد التأكد من أن سوق المراهنات الافتراضية غير محددة بقانون حتى اليوم، كما أن السوق السوداء شهدت ازدهارا ملفتا في السنوات الثماني الماضية.
وتستقطب سوق المراهنات السوداء حوالي مليون تونسي من خلال العشرات من المواقع الإلكترونية الأجنبية المتخصصة في هذا المجال بحجم أموال يتجاوز نصف مليار دينار (قرابة 182 مليون دولار)، في حين تشير تقديرات إلى أن قرابة ألفي محل للمراهنات الرقمية غير المرخصة منتشرة في البلاد يتكون أغلبها من بضعة كمبيوترات يستعملها الزبائن للنفاذ إلى مواقع المراهنات الرياضية.
وفي الحقيقة أن انتشار شبكات المراهنات الإلكترونية في الخفاء ظاهرة مزعجة خاصة في غياب الرقابة من قبل الدولة، في الوقت الذي تصب فيه الترجيحات إلى توسع نشاط المراهنات الموازية أكثر بعد أن باتت تمثل الأمل الوحيد للعاطلين وحتى الموظفين في بعض الأحيان، رغم تأثيرها بشكل غير مباشر على احتياطات البلاد من النقد الأجنبي.
ولا يمنع قانون الجرائم الإلكترونية، الذي صادقت عليه حكومة يوسف الشاهد في شهر مايو 2018، ممارسة هذا النوع من المراهنات لأنه لم يذكر ذلك صراحة، ما يجعل من تعقب أموال المراهنات أمرا يبدو مستحيلا. ومن هنا جاءت محاولة حكومة المشيشي لوضع حد لهذه الظاهرة. لكن من الصعب الحديث عن أنها ستنجح لأن الأمر يتطلب وقتا لمعرفة ذلك.
جميع المسؤولين في تونس يتعهدون بمكافحة الفساد ويتوعدون الفاسدين، لكن لا أحد تجرأ يوما على استئصال المشكلة من جذورها أو على الأقل التقليل منها، فالطبقة السياسية تنبذها في الظاهر ولا تفعل شيئا في الباطن وهذه الأيادي المرتعشة لا يمكن لها أن تحل المشكلة.
وربما لا يقترن التنفيذ الأمثل لاستراتيجية تونس بإيجاد مؤسسات بديلة عن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أو هيئة إضافية لمحاربته، بل يقتضي الأمر في الأساس المزيد من تنفيذ القانون بشكل حازم وعادل بالتعاون مع المجتمع المدني والجهات الحكومية المعنية.
وفي حين يتحدث الجميع عن الحوكمة الرشيدة في إدارة الأموال العمومية، يظهر القصور الحكومي في تأخر معالجة ملفات فساد وتجاوزات متراكمة خلال سنوات لم يتم حسمها إلا بضغط شعبي، حيث أسهمت بلاغات أغلبها مقدمة من أفراد في سرعة استجابة النيابة العمومية والقضاء وإدانة المتورطين وهذا ما اعتبره البعض شعبوية من قبل المسؤولين لتبرير بقائهم في السلطة وتلميع صورتهم أمام الرأي العام.
وقد يكون الإصلاح في الذوات القانونية والدستورية لبعض الهيئات المستقلة ضرورة ملحّة لاستكمال المسار القانوني في تتبع المتهربين ضريبيا وإبعاد البلاد من دائرة الشكوك حول اعتبار مكانها ملائما لغسل الأموال، فقد عانت تونس من هذه المشكلة طيلة عامين حينما وضعها الاتحاد الأوروبي ضمن قائمة الدول المتقاعسة في مواجهة تلك الظواهر العابرة للحدود.
وبينما لم يتعرض الدستور التونسي لتعريف الذوات المعنوية والهيئات المستقلة بشكل واضح، تم إحداث هيئات كثيرة على امتداد العقد الماضي بصفة هيئات مستقلة للحد من الهيمنة والتدخل المباشر من السلطة التنفيذية، لكن طريقة تعيين رؤساء وأعضاء تلك الهيئات تشير إلى تداخل السلطة التنفيذية مع هذه الهيئات ما جعل استقلاليتها محل انتقاد من المختصين وحتى الرأي العام الذي يتابع بقلق ما يحصل.
ويشكل البطء في علاج أسباب الفساد نتيجة البيروقراطية وصعوبة النفاذ للمعلومة أحيانا، مواطن ضعف استغلّها البعض في استسهال ارتكاب أعمال الفساد، إذ بقيت العقوبات الرادعة محدودة التطبيق فالكثير من الملفات المعروضة أمام القضاء لم يتم البت فيها حتى اليوم، ما يجعل الأمر برمته في دائرة الشكوك.
العرب