باريس – تحول الغضب الفرنسي على جريمة اغتيال أستاذ التاريخ، الجمعة، إلى حملة أمنية لاعتقال عدد محدود من العناصر الذين ساعدوا المهاجم على تنفيذ الجريمة، في وقت يعتقد فيه خبراء في الجماعات الإرهابية أن الحملات الأمنية المعزولة لن تؤدي إلى نتائج ذات قيمة في وقف الهجمات الإرهابية.
وداهمت الشرطة الفرنسية، الاثنين، جمعيات إسلامية واعتقلت أجانب يشتبه في اعتناقهم معتقدات دينية متطرفة، وذلك بعد ثلاثة أيام من قيام ناشط إسلامي بذبح أحد المدرّسين.
وقُتل مدرس التاريخ صمويل باتي (47 عاما) يوم الجمعة في وضح النهار خارج مدرسته في منطقة يقطنها سكان من الطبقة المتوسطة في باريس على يد شاب من أصل شيشاني يبلغ من العمر 18 عاما. وقتلت الشرطة المهاجم بالرصاص.
وسعى القاتل المراهق إلى الانتقام من المدرس بعد استخدامه رسوما كاريكاتيرية مسيئة للنبي محمد في حصة دراسية عن حرية التعبير للأطفال في سن الـ13. ويعتقد المسلمون أن أي تصوير للنبي تجديف. ووصفت شخصيات عامة القتل بأنه هجوم على الجمهورية وعلى القيم الفرنسية.
وقال وزير الداخلية جيرالد دارمانان إن السلطات تجري نحو 80 تحقيقا في خطاب الكراهية على الإنترنت وأنه يبحث ما إذا كان سيحل نحو خمسين جمعية إسلامية. وأضاف الوزير لإذاعة “أوروبا 1” “عمليات الشرطة جارية وسيتبعها المزيد بحق عشرات الأفراد”.
وأعلن دارمانان أن أجهزة الدولة ستزور مقار 51 جمعية خلال الأسبوع وأن الكثير منها “سيتمّ حلها” بقرار من مجلس الوزراء.
وعبر بشكل خاص عن رغبته في حل “التجمع ضد الإسلاموفوبيا في فرنسا”، مؤكدا أن هذا الكيان “متورط علنًا” وهناك “عدد معين من الدلائل التي تسمح لنا بتصنيفه عدوّا للجمهورية”.
ويعتقد خبراء في الجماعات الإرهابية أن التعاطي الأمني مع الجريمة باعتبارها جريمة منفصلة واعتقال بعض الأشخاص لن ينهيا الإرهاب، بل ربما يشجعان على ارتكاب جرائم أخرى، لافتين إلى أن المجموعات المتطرفة تحوّل اعتقال عناصرها -أو حتى قتلهم- إلى عنصر تحميس لبقية العناصر من أجل تنفيذ هجمات أخرى.
وأشار الخبراء إلى أن فرنسا -وأوروبا ككل- تميل إلى الحل الأمني كردة فعل أولية لإظهار القوة والحزم ضد الإرهاب، لكن ذلك لا يحقق نتائج على المدى البعيد، والدليل أن الهجمات مستمرة في فرنسا، كما يستمر الوضع الملائم لظهور إرهابيين محتملين خاصة في المناطق الفقيرة والأحياء المهمشة.
ولفت الخبراء إلى أن التعاطي الأمني لا بد أن يستند إلى خطة شاملة تقوم على تفكيك الجماعات الداعمة للإرهاب ماليا ودعويا، وهي جماعات باتت ذات حضور قوي ومهدد لفرنسا، وهو أمر سبق أن أشار إليه مسؤولون فرنسيون، وبينهم الرئيس إيمانويل ماكرون في أكثر من مرة، وآخرها في خطابه عن الانعزالية الإسلامية.
واستفادت جماعات وجمعيات إسلامية مثيرة للجدل من تسامح الحكومات الفرنسية المتعاقبة، ومن مناخ الحرية، لبناء نفوذ متشابك بين الجالية الإسلامية، وذلك من خلال العمل الخيري والدعوي، والسيطرة على المساجد، وهو ما ساعد على بناء مجتمعات منغلقة على ذاتها وتعادي الدولة وثقافتها وقيم العلمانية.
وتستقطب هذه المجتمعات الصغيرة المنغلقة على ذاتها المهاجرين الجدد، وخاصة الذين هاجروا دون وثائق رسمية، وتشحنهم ضد فرنسا من خلال اللعب على المشاعر الدينية والإيحاء بأن المسلمين مستهدفون وأن الجالية مظلومة، وهو ما يفسر تطوّع شبان جدد للقيام بعمليات إرهابية، تحت أنظار عناصر تلك الجماعات المحرّضة.
ورغم تعهدات سابقة بالإسراع في استبدال الأئمة، ومراقبة خطاب المساجد الذي يمتدح جهات أو جماعات خارجية، ومراقبة تمويل الجمعيات، إلا أن الخطوات الفرنسية لا تزال بطيئة، ما يوحي بأن التصريحات القوية ضد الإرهاب هدفها الاستثمار السياسي والانتخابي.
ويتساءل الخبراء عن سر سكوت فرنسا عن شبكات التمويل الخارجي التي تظهر آثارها في المساجد كما في العمل الخيري الهادف إلى الاستقطاب؟ وعما إذا كان الأمر مرتبطا بمراعاة حجم الاستثمارات الخارجية لدول لديها نفوذ داخل شبكات الإسلام السياسي، مثل قطر التي تستثمر في مشاريع اقتصادية واجتماعية في الضواحي الفرنسية، فضلا عن نفوذها المالي في المجال الرياضي والسياحي؟
وخلال السنوات الأخيرة، دأبت باريس على إجراءات محدودة في التعامل مع المتشددين مثل الاعتقالات أو الترحيل.
وقال مصدر في الشرطة الأحد إن فرنسا تستعد لترحيل 213 أجنبيا كانوا على قائمة المراقبة الحكومية ويشتبه في اعتناقهم معتقدات دينية متطرفة، من بينهم نحو 150 شخصا بصدد قضاء عقوبات سجنيّة. وقال مصدر أمني إن عمليات الترحيل كانت جارية بالفعل قبل هجوم الجمعة.
واعتقلت الشرطة عشرة أشخاص في ما يتصل بالهجوم خلال الساعات الأربع والعشرين التي أعقبت مقتل باتي. وقال ممثلو الادعاء إن من بينهم والد تلميذ في المدرسة التي يدرّس فيها باتي وشخص آخر تتبعه أجهزة المخابرات قالوا إنه استخدم وسائل التواصل الاجتماعي في حملة ضد المعلم.
وخلّف قتل المدرس صمويل باتي صدمة في مختلف أنحاء فرنسا. وتظاهر عشرات الآلاف الأحد دفاعا عن حرية التعبير ورفض “الظلامية”، فيما عقد الرئيس ماكرون في المساء اجتماعا لمجلس الدفاع قال خلاله إن “الخوف سينتقل إلى المعسكر الآخر… لن ينعم الإسلاميون بالطمأنينة في بلادنا”، وفق ما نقل عنه قصر الإليزيه.
وفي نهاية الاجتماع الذي استمر ساعتين ونصف الساعة، مع رئيس الوزراء جان كاستكس وخمسة وزراء والمدعي العام لمكافحة الإرهاب جان فرانسوا ريشار، أعلن ماكرون عن “خطة عمل” ضد “الكيانات والجمعيات أو الأشخاص المقربين من الدوائر المتطرفة”، والذين يحضّون على الكراهية.
العرب