في زمن الجائحة، صار الناس يبحثون عن الكثير من السلطة المركزية والكثير من الحكومة القوية ويربطون بين حضور كل منهما وبين القدرة على الاستجابة السريعة والرشيدة لتحديات الصحة العامة والتحديات الاقتصادية والاجتماعية التي يفرضها كوفيد ـ 19. لم يعد الطلب الشعبي في العدد الأكبر من الديمقراطيات الغربية، وكما تدلل الاستطلاعات الراهنة للرأي العام، يتجه إلى تقليص صلاحيات الحكومات المرابطة في العواصم ومنح سلطات الأقاليم والجهات والمحليات المزيد من الاستقلالية لكونها الأقرب إلى الناس وهموم حياتهم. لم تعد أغلبية مواطنات ومواطني الديمقراطيات الغربية تتخوف من تغول صلاحيات الحكومات ومن تهديداتها المستمرة للحقوق والحريات، وتفضل من ثم تحجيم الحكومات بتقوية الفاعلين غير الحكوميين (نقابات عمالية ومهنية ومنظمات مجتمع مدني وأحزاب).
بل تزايد في معية الجائحة الطلب على إطلاق يد الحكومات للاستصدار السريع للقوانين والقرارات والإجراءات الضرورية للسيطرة على الجائحة والحد من أخطار الصحة العامة الناجمة عنها، وجل تلك القوانين والقرارات والإجراءات يقيد عملا حقوق وحريات المواطن إن فيما خص حرية السفر والتنقل أو لجهة شروط التواجد في الفضاء العام (أماكن العمل والدراسة ووسائل المواصلات وغيرها) أو فيما يتعلق بالحق في سرية البيانات الصحية للمواطنات والمواطنين وهو الحق الذي حجم إلى حد بعيد إزاء إلزام الناس وباسم «الصالح العام» بحتمية الإبلاغ عن تطورات حالتهم الصحية. تزايد أيضا الطلب الشعبي على تمكين الحكومات من التعاطي الرشيد مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية للجائحة دون إهدار الوقت إن في نقاشات مطولة بين من يديرون الوزارات الحكومية في العواصم وبين ممثلي الأقاليم والجهات والمحليات أو في رتابة البحث عن مواءمات سياسية فيما خص الإعانات الاقتصادية والمالية المقدمة إلى المتضررين من الجائحة بين الحكومات من جهة وبين النقابات ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب من جهة أخرى.
في ألمانيا، على سبيل المثال، نشبت خلال الأسابيع القليلة الماضية وعلى خلفية تحديات الجائحة أزمة سياسية حادة بين الحكومة الاتحادية التي تترأسها المستشارة أنجيلا ميركل وبين حكومات الولايات.
لألمانيا تنظيم فيدرالي يضمن منذ 1949 دستوريا وقانونيا حضور حكومة اتحادية قوية تقود شؤون الاقتصاد والمال والسياسة والعلاقات الخارجية، ويصون كذلك استقلالية الولايات المعنية بتسيير أمور النظام العام والصحة العامة والتعليم المدرسي والجامعي والمرافق الحيوية الأخرى كالمواصلات والثقافة والفن والرياضة. لألمانيا تنظيم فيدرالي يستند منذ 1949 إلى الديمقراطية البرلمانية على مستوى الاتحاد وفي الولايات، وينهض على التعددية الحزبية وتداول السلطة عبر انتخابات نزيهة وعلى الاستقلال التام للقضاء.
في زمن الجائحة، صار الناس في الديمقراطيات الغربية يبحثون عن السلطة المركزية والحكومة القوية أكثر من أي وقت مضى. أما خارج الغرب، ففي الأمر حقائق أخرى تدور حول العودة إلى الدولة الوطنية وأدواتها وفقدان الثقة في كل ما عداها
خلال الأسابيع القليلة الماضية، تزايدت الإصابات اليومية بفيروس كوفيد-19 على نحو متسارع وذاعت مشاعر القلق والتوجس بين الناس (رصدت ذلك بصورة شخصية ومباشرة لكوني أقيم في العاصمة برلين منذ بدايات الصيف الماضي). بدا وكأن «الاستثناء الألماني» الذي عني محدودية معدلات الإصابة والموت من جراء الجائحة مقارنة بالمعدلات الأوروبية والمعدلات العالمية في سبيله إلى الانتهاء في أعقاب صيف شهد سفر وتنقل العديد من المواطنات والمواطنين (لأغراض السياحة وقضاء العطلات) ومع حلول الخريف ذي الطقس المتقلب والممطر.
دفعت حالة القلق والتوجس العام حكومة المستشارة ميركل، وهي حكومة ائتلافية للحزبين المسيحي الديمقراطي (يمين الوسط) والاشتراكي الديمقراطي (يسار الوسط) إلى البحث في فرض قيود جديدة على حرية المواطن في السفر والتنقل ووضع حزمة من الاشتراطات المشددة فيما خص تواجد الناس في الفضاء العام. ولكون التنظيم الفيدرالي لألمانيا يلزم الحكومة الاتحادية بالتوافق مع حكومات الولايات قبل تمرير مثل تلك القيود والاشتراطات، دعت المستشارة قبل أيام قليلة رؤساء حكومات الولايات، وأغلبيتهم تنتمي إما إلى حزب ميركل المسيحي الديمقراطي أو إلى شريكها في الائتلاف الاتحادي الحزب الاشتراكي الديمقراطي، إلى مائدة المفاوضات في مقر المستشارية. أرادت الحكومة الاتحادية منع إقامة من يعيشون في المدن والمناطق ذات معدلات الإصابة المرتفعة خارج مدنهم ومناطقهم واقترحت كآلية للتنفيذ إجبار الفنادق وشركات التأجير العقاري على تطبيق ذلك المنع، فرفض بعض رؤساء حكومات الولايات. أرادت الحكومة الاتحادية منع التجمعات في الفضاء العام وتقليل الكثافات في أماكن العمل والدراسة وقصر التواجد المشترك للناس خارج المنازل على المنتمين لأسرتين فقط وإلزام العائدين من الأسفار الخارجية بإجراء كشف كوفيد-19 بعد مرور عدة أيام على العودة (وليس الكشف الفوري في اليوم الأول أو الثاني بعد العودة والذي ثبتت عدم دقة مدلولاته الطبية) فرفض بعض رؤساء حكومات الولايات. أرادت الحكومة الاتحادية الانتقال من اشتراط ارتداء الكمامات الواقية في وسائل المواصلات والأماكن المغلقة إلى تعميم اشتراط ارتداء الكمامات في الشوارع والميادين العامة في المدن والمناطق ذات معدلات الإصابة المرتفعة، فرفض العدد الأكبر من رؤساء حكومات الولايات. على مائدة المفاوضات في مقر المستشارية، لم يتوافق ممثلو الحكومة الاتحادية وممثلو حكومات الولايات سوى على حزمة إجراءات تتعلق من جهة بخطوات الإغلاق الكلي أو الجزئي لأماكن العمل والدراسة حال تواصل ارتفاع معدلات الإصابة، وترتبط من جهة أخرى بالمساعدات الاقتصادية والمالية التي ستقدم للمتضررين من أصحاب المصالح الصغيرة ومتوسطة الحجم.
أما ميركل، وهي لم تحصل على ما أرادته من التفاوض ولم تخف إحباطها من غياب التوافق مع رؤساء حكومات الولايات، فخرجت على الرأي العام بخطاب مباشر عبرت به عن خيبة أملها وطالبت به المواطنات والمواطنين بالتحمل الفوري لمسؤوليتهم فيما خص السيطرة على الجائحة وبالتصرف الرشيد بعيدا عن قرارات وحسابات حكومات الولايات. لموقفها هذا، حصدت المستشارة التي تتمتع اليوم بمعدلات ثقة شعبية مرتفعة للغاية تأييدا واسعا بين الناس أظهرته استطلاعات الرأي العام ودللت عليه افتتاحيات كبريات الصحف الألمانية (إن المحافظة أو الليبرالية واليسارية) التي أشادت بالفعل السياسي الرشيد والمسؤول لميركل وانتقدت حكومات الولايات المتخوفة من أصحاب المصالح الاقتصادية والمالية الكبرى المعارضين للقيود والاشتراطات الجديدة. بل أن بعض كتاب الافتتاحيات الصحافية تمنوا أن تتمتع المستشارة الألمانية في ظروف كوفيد-19 بذات السلطات والصلاحيات المركزية التي يتمتع بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي أصدر مؤخرا وبسرعة بادية ودون العودة إلى حكام الأقاليم حزمة من القرارات والإجراءات الجديدة للسيطرة على الفيروس اللعين.
في زمن الجائحة، صار الناس في الديمقراطيات الغربية يبحثون عن السلطة المركزية والحكومة القوية أكثر من أي وقت مضى. أما خارج الغرب، ففي الأمر حقائق أخرى تدور حول العودة إلى الدولة الوطنية وأدواتها وفقدان الثقة في كل ما عداها.
عمرو حمزاوي
القدس العربي