العلاقة بين النظامين، السوري والإيراني، عضوية، تعود إلى الأيام الأولى لإعلان “الجمهورية الإسلامية” في إيران على أنقاض نظام الشاه عام 1979. بدأت مصلحية وظيفية، ولكنها تنامت عبر العقود، حتى غدت في يومنا هذا علاقة تماهٍ واندماجٍ تستعصي، استناداً إلى المعطيات الراهنة، على أي فصل، ما لم تحدث تحولاتٌ نوعيةٌ في المنطقة، تعيد ترتيب التحالفات والمعادلات بصورة جذرية، لتنسجم مع التحولات الكبرى التي لا يُستعبد حدوثها في المنطقة، خصوصا على صعيد المفاهيم والأولويات والممارسات.
وقد بدأت هذه العلاقة بفعل رغبة حافظ الأسد في امتلاك مزيد من الأوراق لمواجهة المخاطر الجدّية التي كان نظام صدام حسين في العراق يجسدها على حكمه في سورية. وقبل وصول الخميني إلى الحكم، كان حافظ الأسد قد تمكّن من نسج العلاقات الوثيقة مع حركة أمل التي أسسها موسى الصدر عام 1975 بهدف تشكيل تنظيم عسكري سياسي للشيعة في لبنان. أما الغطاء فقد كان باستمرار هو شعار مناصرة القضية الفلسطينية، وتحرير القدس، وذلك بعد أن كان الأسد قد تمكّن من تحجيم كل القوى الأخرى، اليسارية منها واليمينية المحافظة، الإسلامية والمسيحية، اللبنانية والفلسطينية، وكان يعتبرها كلها مناوئة لحكمه، وتمثل خطراً عليه. ولم يكن في مقدوره فعل ذلك، لولا الضوء الأخضر الأميركي – الإسرائيلي الذي سمح له بالدخول إلى لبنان، وترتيب الأمور فيه بشكلٍ يأخذ الأمن الإسرائيلي بعين الاعتبار. وقد تمكّن، مع الوقت، من إضعاف الجميع بإحداث الانشقاقات، وإبراز بعضها، ودعم الموالين، وهذا ما أدّى، في نهاية المطاف، إلى هيمنته على الوضع، ووضع بذلك حدّاً لجهود خصمه اللدود، صدّام حسين، في الساحة اللبنانية. واستفاد حافظ الأسد كثيراً بعد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، الغزو الذي أسفر عن اجتياح الجيش الإسرائيلي بيروت، وإخراج منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات من لبنان.
عمل حافظ الأسد على تشجيع الانشقاقات الفلسطينية، واحتضن الفصائل العراقية المناهضة لحكم صدّام حسين
ونتيجة التقاء مصالح حافظ الأسد، في ذلك الحين، مع مشروع النظام الإيراني الذي ارتكز دائماً على حيوية موقع سورية الجيوسياسي، تم التوافق على تشكيل حزب الله عام 1982، ليكون مستقبلاً المهيمن في الساحة اللبنانية بعد احتكار ملف المقاومة، وإسكات المعارضين أو تغييبهم، سيما في الوسط الشيعي؛ ومن ثم استثمار نتائج جهود الترويض التي مارسها نظام الأسد، عبر جيشه وأجهزة مخابراته، مع جميع الأطراف اللبنانية. واستمراراً منه في خطة امتلاك الأوراق الإقليمية، عمل حافظ الأسد على تشجيع الانشقاقات الفلسطينية، واحتضن الفصائل العراقية المناهضة لحكم صدّام حسين. وعمل، في الوقت ذاته، عبر منظمات فلسطينية قريبة منه، على الاستثمار في الورقة الكردية في تركيا، وبنى العلاقات مع فصائل كردية عدة، ولكنه، في النهاية، تبنّى حزب العمال الكردستاني (تأسس عام 1978) بزعامة عبدالله أوجلان الذي دخل إلى سورية عام 1979 (باسم مستعار هو علي)، الأمر الذي كان يشي، منذ ذلك الحين، ببراغماتية أوجلان، على الرغم من أنه كان يقدّم نفسه النسخة الكردية عن الزعيم الماركسي اللينيني الستاليني. وبناء على التشارك في المصالح والتوجهات، سمح حافظ الأسد لأوجلان ببناء العلاقات مع النظام الإيراني منذ بداية الثمانينات، ليتحوّل، منذ ذلك الحين، إلى أداة من أدوات مشروع النظام الإيراني في المنطقة، وهو المشروع الذي يرتكز على احتكار ورقة المرجعية المذهبية في الوسط الشيعي. أما في الوسط الكردي، فقد حاول النظام المعني الاستفادة من جهود حزب العمال، وذلك لمعرفته بصعوبة، إن لم نقل استحالة تسويق المذهبية الشيعية ضمن الوسط الكردي السني بصورة عامة، سواء في إيران نفسها أم في المنطقة ككل. ولكن ما حصل أن حافظ الأسد لم يتمكّن من الهيمنة بصورة كاملة على الساحتين، الفلسطينية والعراقية، وذلك بفعل عوامل عدة، في مقدّمتها وجود تنظيمات سياسية قوية على الأرض، لديها تأييد واسع ضمن وسطها الشعبي. بينما تمكّن في الساحة اللبنانية من تعزيز سلطته، عبر قناة حزب الله الذي بات، مع الوقت، القوة العسكرية السياسية الأكثر قوة وتنظيماً في لبنان.
نسج حافظ الأسد علاقات وثيقة مع حركة أمل التي أسسها موسى الصدر عام 1975 بهدف تشكيل تنظيم عسكري سياسي للشيعة في لبنان
كردياً، اتخذ حافظ الأسد من حزب العمال الكردستاني أداة لتهميش الأحزاب الكردية السورية التي تعرّضت مع الوقت لانشقاقاتٍ أحدثتها، في معظمها، جهود أجهزة مخابرات النظام وخططه. ولم يقتصر استغلال الأسد الحزب المذكور على الداخل السوري، بل امتد ليشمل الجوار الإقليمي، خصوصا تركيا التي استطاعت، في وقت لاحق، إجبار الأسد على إخراج أوجلان من سورية، والتوقيع على اتفاقية أضنة الأمنية عام 1998.
وما يسجل لحافظ الأسد، في تعامله مع النظام الإيراني، أنه كان يتعامل معه بصورة ندّية، ويحرص، في الوقت ذاته، على علاقاته العربية، سيما مع السعودية. وذلك على عكس ما فعله وريثه بشار في ما بعد الذي اعتمد على الإيراني بصورة شبه مطلقةٍ لمواجهة التحدّيات الداخلية والخارجية، خصوصا في لبنان والعراق. وقد أسهمت تصريحات بشار وسلوكياته، والاغتيالات التي كان وراءها، في تعكير صفو العلاقات مع الدول الخليجية، الأمر الذي أحدث خلخلةً في التوازن، وكانت النتيجة دخول النظام بصورة كاملة ضمن الحظيرة الإيرانية، وتحوّل إلى عاملٍ متكاملٍ لتنفيذ المشروع الإيراني في المنطقة، وقد بدا ذلك واضحاً في كل من العراق ولبنان.
اتخذ حافظ الأسد من حزب العمال الكردستاني أداة لتهميش الأحزاب الكردية السورية التي تعرّضت مع الوقت لانشقاقاتٍ
ومع بداية الثورة السورية، استعان بشار بحزب الله وحزب العمال، بالتنسيق مع النظام الإيراني صاحب المشروع التوسعي في المنطقة. وعلى الرغم من كل المتغيرات التي حدثت لاحقاً، سواء من جهة اعتماد الولايات المتحدة الأميركية على القوات التابعة للاتحاد الديمقراطي، وهو الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني؛ ودخول الروس إلى جانب النظام في حربه على السوريين منذ أيلول/ سبتمبر 2015، يلاحظ أن علاقة نظام بشار مع إيران ظلت كما كانت عليه، فالنفوذ الإيراني في سورية هو هو على الرغم من كل القصف الإسرائيلي، والتصريحات الأميركية والإسرائيلية، بل هناك بوادر لتغيير قواعد اللعبة في لبنان ليتمكّن حزب الله، رأس الحربة في المشروع الإيراني، من تجاوز الضغوط الشعبية والدولية. ويشار هنا إلى المفاوضات الخاصة بعمليات ترسيم الحدود مع بين لبنان وإسرائيل، وهي مفاوضاتٌ لم يكن في الإمكان البدء بها في ظل عدم وجود حكومة، وفي أجواء الانهيار الاقتصادي، لولا موافقة حزب الله الذي بات بمثابة الدولة العميقة في لبنان. كما يشار، في السياق ذاته، إلى التواصل الذي تم مع الجانب الأميركي من اللواء عباس إبراهيم، المحسوب على حزب الله وحركة أمل، من أجل عقد صفقةٍ تتضمن الإفراج عن مواطنيْن أميركيين في سورية. وما يستنتج من هذا أننا سنشهد، في خضم التصعيد الإسرائيلي الأميركي ضد الوجود الإيراني في سورية، اتصالات عديدة، وربما صفقات.
ولعل من المفيد أن يُشار هنا إلى أن ما يساعد الإيرانيين على تمرير مشروعهم، على الرغم من كل الاعتراضات والعقبات والعقوبات، هو هشاشة القوى المتضرّرة من هذا المشروع التوسعي، وتفككها، وانشغالها بخلافاتها البينية، ففي لبنان، مثلاً، لم تتمكّن القوى السياسية خارج دائرة النفوذ الإيراني من تنسيق المواقف في ما بينها، ولم تتعامل مع الوضع جبهة متماكسة، بل باتت تراهن على إدارة الأزمة وتدويرها.
أما في العراق فلا تبدو في الأفق أي بوادر مطمئنة لنجاح مشروع حكومة مصطفى الكاظمي، بل يستمر النظام الإيراني في شدّ عصب مليشيات “الحشد الشعبي” ودعمها، وما الاعتداء أخيرا على مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني في بغداد سوى خطوةٍ من الخطوات المستمرة في هذا الاتجاه. كما يدعم النظام الإيراني، من جهة أخرى، جهود حزب العمال الكردستاني في دفع الأمور نحو عدم الاستقرار، بل وتفجيرها في إقليم كردستان العراق. أما سورية فقد تفكّكت أرضاً وشعباً، وتشتت ناسها، وبات من الصعب جداً لملمة أجنحة المعارضة نتيجة التدخلات الإقليمية والدولية، وعدم وجود أحزاب قوية مؤثرة.
تحولات ومتغيرات كثيرة جرت في منطقتنا على مدى العقدين المنصرمين، وهناك متغيرات قادمة، ولكن الثابت يظل، وحتى إشعار آخر، متمثلاً في العلاقة العضوية بين نظام وريث الجمهورية وولي الفقيه، وقد بلغت هذه العلاقة مستوى تغلغل النظام الإيراني في مفاصل الدولة والمجتمع السوريين. وفي الأثناء، تواجه دول منطقتنا تحدّيات كبرى. ملايين المهجرين، ومجتمعات مفكّكة، وانهيارات اقتصادية كبرى بفعل الحروب والفساد اللامحدود، والأزمات المستعصية المفتوحة؛ ويتزامن ذلك كله مع حالة من الغموض تخيم على أولويات الموقف الأميركي.
الكل في انتظار نتائج الانتخابات الأميركية، ولكن التجارب السابقة علمتنا أن الأولويات الأميركية تفرضها المصالح الأميركية، لا تضحيات وتطلعات الشعوب المغلوبة على أمرها.
ما تحتاجه دول المنطقة، قبل كل شيء، هو ترميم نسيجها المجتمعي، والتركيز على أولوياتها الوطنية بعيدا عن المشاريع الإقليمية العابرة للحدود، وهي المشاريع التي لم تجلب لمنطقتنا سوى الحروب والقتل والخراب واليباب.
عبدالباسط سيدا
العربي الجديد