في ظل صمت رسمي عسكري وسياسي تركي تام، تشير المعلومات الميدانية في إدلب إلى أن الجيش التركي أتم يوم الثلاثاء تفكيك وسحب نقطة المراقبة الأكبر في منطقة مورك بريف حماة شمالي سوريا، وسط معلومات وتكهنات متضاربة حول السياق الذي جاءت فيه هذه الخطوة التركية المهمة والأهداف منها على الصعيدين العسكري والسياسي.
رسمياً، لم يصدر أي بيان أو تصريح أو توضيح رسمي من أي مسؤول عسكري أو سياسي تركي حول هذه الخطوة، لكن ميدانياً تؤكد المصادر السورية ومقاطع الفيديو التي انتشرت أن الجيش التركي أخلى بالفعل نقطة المراقبة في مورك، وسط أنباء عن استعدادات لإخلاء عدد آخر من نقاط المراقبة التركية المحاصرة في مناطق النظام السوري منذ المعارك التي شهدتها محافظة إدلب ومحيطها نهاية العام الماضي وبداية العام الجاري.
وبالعودة قليلاً إلى الوراء، فإن نقاط المراقبة التركية لم يتم إنشاؤها كقواعد عسكرية مجهزة للقيام بعمليات قتالية واسعة أو مهمات هجومية، وإنما تأسست بقدرات محدودة وباتفاق مع روسيا في إطار اتفاق أستانة بحيث تكون مهمتها الفصل بين قوات النظام السوري والمعارضة ومراقبة تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار.
وعملياً، ومنذ محاصرة هذه النقاط من قبل النظام السوري، فإنها فقدت أي قيمة عسكرية حقيقية، ولم تعد تشكل أي إضافة للتواجد العسكري التركي، بل على العكس فإن عشرات الخبراء العسكريين ومنهم أتراك أكدوا مرارا أن هذه النقاط تحولت إلى عبء على تركيا بالمفهوم العسكري حيث أنها باتت بمثابة نقطة ضعف تمنع تركيا من القيام بأي مناورة عسكرية مع النظام أو روسيا خشية على حياة مئات الجنود المحاصرين في العديد من نقاط المراقبة التي توصف بأنها “ساقطة عسكرياً”.
ورغم عدم تمتعها بأي أهمية عسكرية، أصرت تركيا على إبقاء تواجدها بهذه النقاط لأهداف تغيرت مع تغير الوقائع على الأرض وتغير موازين القوى، ففي المرحلة الأولى فاوضت تركيا على إرجاع قوات النظام إلى حدود اتفاق أستانة وتفاهمات سوتشي لكن هذا المطلب ووجه برفض روسي مطلق باعتبار أن “النظام يفرض سيادته على أراضيه ولا يمكن أن يتراجع عن شبر من الأرض”.
ولاحقاً، ضغطت تركيا باتجاه سحب قوات النظام السوري وفرض السيطرة على تلك المناطق من قبل الجيش التركي والشرطة العسكرية الروسية من أجل إتاحة المجال أمام عودة المهجرين من تلك المناطق إلى منازلهم، وهو أيضاً ما رفضته روسيا بشكل مطلق.
وفي المفاوضات التي جرت الشهر الماضي بين وفد عسكري ودبلوماسي روسي مع نظرائهم الأتراك في أنقرة، ضغطت روسيا بشكل مباشر على تركيا لسحب نقاط المراقبة المحاصرة في إدلب وتقليل وجودها العسكري في المحافظة، وسط أنباء عن خلافات كبيرة بين الطرفين حول مستقبل الأوضاع في محافظة إدلب، وبدأت بوادر التصعيد الروسي بعدما حرك النظام مئات من عناصره بزي مدني للتظاهر أمام نقاط المراقبة التركية لتشكيل ضغط على أنقرة لسحبها.
هذه التطورات جاءت بالتزامن مع تصعيد النظام العسكري تجاه إدلب وزيادة الخشية من التحضير لعملية عسكرية جديدة واسعة يهدف من خلالها النظام الذي حشد قوات كبيرة طوال الأسابيع الماضية وبغطاء جوي روسي إلى السيطرة على جبل الزاوية الاستراتيجي جنوب إدلب وصولاً للطريق الدولي وحصر ما تبقى من مدنيين وفصائل معارضة في شريط ضيق قرب الحدود التركية.
في هذا السياق الطويل، جاءت الخطوة التركية بسحب أول نقطة مراقبة محاصرة في إدلب، وفي ظل غياب التصريحات الرسمية من كافة الأطراف المعنية وخاصة تركيا وروسيا بدرجة أساسية، فإن السيناريوهات المتوقعة تتمحور حول احتمالين أحدهما سياسي والآخر عسكري.
الاحتمال الأول والأقل حظاً، هو أن روسيا وتركيا قد توصلتا بالفعل في نهاية المفاوضات التي جرت في أنقرة الشهر الماضي ولم تعلن نتائجها بشكل رسمي إلى اتفاق ما حول مستقبل الأوضاع في إدلب ربما يتمحور حول سحب نقاط المراقبة التركية المحاصرة مقابل تعزيز تركيا قواتها في مناطق أخرى داخل حدود إدلب الحالية وتقديم ضمانات روسية للحفاظ على خطوط السيطرة الحالية وعدم شن هجوم عسكري جديد على المعارضة.
أما الاحتمال الثاني وهو الأرجح، فهو أن تركيا باتت تخشى قرب بدء النظام بدعم روسي هجوما جديدا على إدلب واحتمال حصول مواجهة عسكرية جديدة كما جرى بداية العام الجاري، ولأجل ذلك كان لا بد للجيش التركي أن يبدأ بالتخلص من نقاط ضعفه المتمثلة في نقاط المراقبة وتعزيز نقاط انتشاره في نقاط استراتيجية على غرار جبل الزاوية وجنوب الطريق الدولي في محاولة لتشكيل حزام عسكري ربما يمنع هجوما جديدا للنظام والحفاظ على ما تبقى من مناطق في إدلب ومحيطها تحت سيطرة المعارضة لمنع حصول كارثة إنسانية جديدة وموجة نزوح واسعة، وهو السيناريو الذي يعتبر آخر ما يمكن أن تحتمله أنقرة في هذه الفترة التي تعاني فيها من تحديات داخلية وخارجية صعبة.
إسماعيل جمال
القدس العربي