قال الصحافي ستيفن إرلانغر في تقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” إن العالم الإسلامي شجب الرد الفرنسي على مقتل المدرس ودعا لمقاطعة البضائع الفرنسية، مضيفا أن التحركات الحكومية ضد التطرف وإن حظيت بدعم شعبي، إلا أنها أدت لانتقاد فرنسا وعلاقتها مع مواطنيها المسلمين التي اتخذت منعطفا قبيحا.
وقال الكاتب إن الحكومة الفرنسية قامت منذ أن قتل شابٌ مسلم مدرساً استخدم صورا مسيئة للرسول في حصة دراسية، قامت بحملة مداهمات وتفتيش ضد من اشتبهت بكونهم متطرفين وأغلقت مسجدا كبيرا ومنظمات إغاثية.
ويقول إرلانغر إن فرنسا لا تزال مصدومة من 36 هجوما نفذها جهاديون خلال الأعوام الثمانية الماضية، قُتل فيها 200 شخص. ويضيف أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة حظيت بدعم واسع، وذهب الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يدافع عن مبادئ العلمانية الفرنسية وحرية التعبير بعيدا للقول إن الإسلام يحتاج لحركة تنوير، فيما تحدث وزير داخليته عن “حرب أهلية”.
وفي العالم الإسلامي تلقى سكانه هذه التصريحات ونبرتها بانتقاد واسع، خاصة أن فرنسا لديها تاريخ معقد مع دوله التي استعمرتها، وأن علاقتها مع سكانها المسلمين البالغ عددهم 6 ملايين اتخذت منعطفا سيئا.
وقاد حملة الشجب تلك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي اقترح أن الرئيس ماكرون يعاني من مرض عقلي “ماكرون بحاجة لعلاج عقله” متسائلا: “ما مشكلة هذا الشخص ماكرون مع الإسلام والمسلمين؟”.
ويعلق الكاتب أن أردوغان الذي يعاني اقتصاده من وضع سيء، لديه كل الأسباب لحرف الانتباه إلى الخارج، خاصة أنه يحاول تقديم نفسه كصوت مدافع عن الدين. ورغم إغضابه فرنسا وعددا من الدول الأوروبية، إلا أن تصريحاته لقيت صداها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خاصة الدول التي حكمتها فرنسا سابقا كدولة مستعمرة، وكذا دعوته لمقاطعة البضائع الفرنسية.
وفي بنغلاديش شارك أكثر من 30.000 شخص في مسيرة معادية لفرنسا بالعاصمة دكا، حُرق فيها مجسم لماكرون، وطالبوا بمقاطعة البضائع الفرنسية. وكانت هناك دعوات لطرد السفير الفرنسي وتهديدات بالهجوم على السفارة الفرنسية.
واتهم رئيس الوزراء باكستان، عمران خان الرئيس الفرنسي بزرع الانقسام وتشجيع المشاعر المعادية للمسلمين. وفي سلسلة من التغريدات كتب خان: “هذا هو الوقت الذي كان على الرئيس ماكرون أن يكون الطبيب ويحرم المتطرفين من الحرية بدلا من خلق حالة استقطاب وتهميش تقود حتما إلى التشدد”. وقال: “بهجومه على الإسلام بدون أن يفهمه، هاجم الرئيس ماكرون وجرح مشاعر ملايين المسلمين في أوروبا وحول العالم”.
وانتقد وزير الخارجية الكويتي ربط الإسلام بالإرهاب، قائلا إنه “تشويه للواقع ولتعاليم الإسلام وجرح لمشاعر المسلمين حول العالم”. وفي قطر تم سحب البضائع الفرنسية من رفوف المتاجر، وسيقوم مطعم “لو ترين بلو” الذي هو نسخة عن المطعم غار دي ليون بتقديم الوجبات بمواد غير مستوردة من فرنسا.
ولم ينتقد وزير الخارجية الأردني ماكرون مباشرة، ولكنه شجب “استمرار نشر الصور المسيئة للرسول بذريعة حرية التعبير”. وانتقد أي محاولة مضللة لربط الإسلام بالإرهاب. وفي السعودية استندت وكالة الأنباء الرسمية على مصدر لم تذكر اسمه في الخارجية السعودية، قوله إن المملكة ترفض محاولات ربط الإسلام بالإرهاب، وتشجب الصور المسيئة للرسول.
وقالت أعلى هيئة دينية في السعودية إن “تشويه” الرسول “لا يخدم إلا المتطرفين” و”هذه الإهانات لا علاقة لها بحرية التعبير”.
وحذرت فرنسا نقادها في العالم الإسلامي، لكن لم يحدث أي عنف حتى الآن. وكانت معظم التصريحات الرسمية موجهة للرأي العام في الدول الإسلامية، وأن قادتها يستمعون لمواقفهم الرافضة، خاصة في ظل المواقف العربية العامة الرافضة لتطبيع بعض الدول العربية مع اسرائيل.
إلا أن ردود الفعل أكدت على الهوة في المفهوم المحيط برد الفعل على مقتل المدرس صمويل باتي (47 عاما) خاصة عندما يتم تكبير الخلافات في ضوء السياسات المحلية. وهناك من يرى في محاولات ماكرون “بناء إسلام فرنسي هو إسلام التنوير” عبارة عن محاولة للتحكم بالمسلمين. لكن أحدا لم يعلق على حملته الواسعة ضد من يقول إنهم متطرفون. فوزير داخليته جيرار دارمانان اقترح منع بيع الطعام الحلال في المحلات التجارية.
وتقول الصحيفة إن السياسة المحلية تدخل في رد فعل الطرفين، خاصة في المبارزة بين الرئيسين التركي والفرنسي، كما يرى سنان أولغين، الدبلوماسي التركي السابق والزميل في وقفية كارنيغي أوروبا. وقال: “هذه معركة تخدم ماكرون وأردوغان” و”يحاول ماكرون استعادة الساحة من اليمين المتطرف، ولهذا فاحتواء الإسلام السياسي في فرنسا هو أجندة جيدة. وفي المقابل يريد أردوغان الظهور بمظهر حامل راية الدفاع عن المجتمع المسلم المستضعف، وهي الصورة التي يريدها لنفسه في الداخل والخارج”.
وليس مصادفة أن تأتي المواجهة بين تركيا وفرنسا في وقت تتراجع فيه قيمة الليرة التركية، ويتصاعد التوتر مع الناتو بسبب الدور التركي في ليبيا والتنقيب عن النفط في منطقة شرق المتوسط. ومن هنا يحاول أردوغان حرف الانتباه إلى الخارج لدعم موقفه في الداخل. ويقول أولغين: “إذا كانت لديك سياسة خارجية حاسمة فالتعقيدات التي تخلقها تؤدي إلى مناخ يشعر فيه الناس بالحصار والحاجة لقائد قوي”.
ومنحت الأحداث فرصة جديدة لأردوغان الملتزم دينيا لتقديم نفسه كمدافع عن الدين والمجتمعات الإسلامية من ليبيا إلى سوريا والبلقان والشيشان وأذربيجان في حربها مع أرمينيا في ناغورني قرهةباغ. وتضيف الصحيفة، إن أردوغان خلق في تركيا “ديكتاتورية إسلامية” تخلت عن مبادئ الدولة العلمانية التي أقامها مصطفى كمال أتاتورك المشابهة للعلمانية الفرنسية.
وانتقد أردوغان السياسات الأوروبية تجاه المسلمين خاصة ألمانيا وفرنسا حيث تعيش أقليات مسلمة من أصول تركية، وقامت حكومته بحملة على منصات التواصل الاجتماعي أغضبت الحكومات الأوروبية. وفي كانون الأول/ ديسمبر، سيجتمع قادة الدول الأوروبية لمناقشة تركيا وفرض عقوبات عليها، والتي أصبحت محتملة في ضوء التطورات الحالية.
ويرى إيان ليسر، الخبير بالشؤون التركية، إن المشاجرة الأخيرة “هي الجبهة الجديدة في علاقات متوترة أصلا”. وقال: “نفّرت تركيا كل حليف لها في واشنطن، وتفعل نفس الشيء في أوروبا”.
ويرى ليسر أن أردوغان وماكرون صادقان في مشاعرهما رغم أنه من السهل استثارتهما للرد: “فرنسا تمثل لأردوغان كل شيء لا يحبه عن أوروبا على المستوى الجيوساسي والثقافي”. و”بالنسبة لأردوغان فمركزية الإسلام تشكل عالمه” و”إحساسه بأن العالم الإسلامي تحت الحصار وجهوده لرفعه هي جزء من هويته السياسية والشخصية التي جعلها على مدى السنوات جزءا من استراتيجيته الإقليمية”.
ولكن على ماكرون أن يكون حذرا حتى لا يظهر بمظهر المدافع عن أوروبا المسيحية كما يري برونو تيراتي، نائب مدير المؤسسة للدراسات الإستراتيجية في باريس، وحتى لو لم يكن هذا المفهوم “مقصودا”.
وانتقد مسؤول السياسات الخارجية في الإتحاد الأوروربي جوزيف باريل فونتيل، أردوغان ودافع عن ماكرون، واتهم الرئيس التركي بتوجيه تهم غير مناسبة أدت للتصعيد.
وقال رئيس المجلس الأوروبي تشارلس ميشيل في تغريدة: “بدلا من أجندة ايجابية، اختارت تركيا الاستفزاز، إجراءات من طرف واحد في شرق المتوسط، والآن الإهانة وهذا لا يمكن تحمله”.
ودعا بهدير كاليغاسي مدير “معهد البسفور” الذي يعمل على تقوية العلاقات التركية- الفرنسية للهدوء. وقال: “هذه ليست حرب عصابات شباب في الشارع بل عن أمن واقتصاد الغرب في النظام العالمي ما بعد الوباء”.
القدس العربي