تواصل الانتخابات الرئاسية الأمريكية الراهنة توفير البرهان تلو البرهان على أنها دورة استثنائية على صعيد النظام الانتخابي وما يقترن به من إجراءات ولوائح وطرائق تصويت أولاً، وكذلك من حيث محتوى وشكل الحملات الانتخابية للمرشح الجمهوري الرئيس الحالي دونالد ترامب والمرشح الديمقراطي نائب الرئيس السابق جو بايدن. وقد يكون الأهم أن الديمقراطية الأمريكية ذاتها تواجه مخاطر جدية غير مسبوقة، على رأسها تهرب ترامب من الإقرار بتسليم السلطة في حال خسارته، وكذلك التصريح بأنه لن يخسر الانتخابات إلا في حالة وقوع تزوير واسع النطاق.
وهذا تلويح واضح باللجوء إلى القضاء، والمحكمة العليا على وجه التحديد، لحسم أي خلاف فعلي أو مفتعل يمكن أن تشهده نتائج التصويت، خاصة في الولايات المتأرجحة التي لا يبدو تفوق أي من المرشحين جلياً تماماً فيها، وعليها يعتمد حسم النتيجة النهائية. ولم يكن بمنأى عن هذه النية أن ترامب سارع إلى تعيين القاضية إيمي كوني باريت في المحكمة العليا بدل القاضية المتوفاة روث بيدر غينسبرغ، وأن الجمهوريين في الكونغرس سارعوا إلى تثبيتها خلافاً لتقليد سنّوه بأنفسهم يقضي بعدم تعيين قاض جديد في المحكمة خلال سنة انتخابات رئاسية.
والآراء المحافظة التي تحملها القاضية الجديدة ليست في وارد تهديد عدد من الحريات العامة والمدنية مثل الإجهاض والزواج المختلط فقط، بل يمكن أن تشمل أيضاً حقوق التصويت ومسببات حرمان المواطنين من ممارسته، وكذلك قانون الضمان الصحي الذي أقرّه الكونغرس في عهد الرئيس السابق باراك أوباما وبذل الجمهوريون في الكونغرس عشرات المحاولات لإبطاله ولم يتبق أمامهم سوى اللجوء إلى المحكمة العليا. ومن المعلوم أن انضمام القاضية باريت إلى المحكمة يجعل الكفة راجحة لصالح القضاة المحافظين بمعدل 6 مقابل 3، وينذر استطراداً بعواقب انقلاب المحكمة إلى سلطة عليا فوق السلطتين التشريعية والتنفيذية.
لافت كذلك أن مضامين الحملات الانتخابية للمرشحين الجمهوري والديمقراطي خلت أو تكاد من التركيز المطلوب على العالم خارج أمريكا وعلى السياسات الخارجية للقوة الكونية الأعظم، وما عدا حرص ترامب على إظهار فضله في توقيع اتفاقيات التطبيع بين دولة الاحتلال الإسرائيلي وكل من الإمارات والبحرين والسودان، فإن جعبة البيت الأبيض خاوية إلا من المشكلات ونقض المعاهدات وتبييض صفحات الطغاة والقتلة. ورغم وجود اعتبارات منطقية كثيرة تبرر التركيز الشديد للمرشح الديمقراطي على تقصير إدارة ترامب في إدارة جائحة كورونا، فإنه في المقابل لا يُظهر مقدار الحد الادنى من الاهتمام بالملفات الخارجية.
جديد كذلك أن أكثر من 52 مليون أمريكي أدلوا بأصواتهم مسبقاً، وإن دلّ هذا الرقم القياسي على توجس المواطنين من الاختلاط في ظل الجائحة، فإنه يدل أيضاً على الحساسية الخاصة التي ترتديها هذه الانتخابات الرئاسية تحديداً، وأن على نتيجتها تتوقف حلول معضلات اقتصادية وصحية واجتماعية وثقافية حاسمة، في طليعتها مظاهر البطالة والركود والجائحة، وليست غائبة عنها انقسامات المجتمع وشيوع التطرف والعنصرية.
استطلاعات الرأي تفيد بتقدم بايدن في التصويت الشعبي وكذلك في المجمع الانتخاباتي ضمن الولايات المتأرجحة، غير أن صعود ترامب لم يكن ظاهرة عابرة منقطعة الجذور، ولهذا فإن احتمال خسارته قد لا تنطوي بالضرورة على اندثار منظومته، بل لعلها ستبقى وتتمدد.
القدس العربي