علاقات إسرائيل التحالفية مع العرب لا تخرج عن الاطار التاريخي لنشوئها والمرتبط بالقوة والفرض والتطهير العرقي. فمن أقام دولته على المصادرة وأخذ وطن ليس له أن يقدم للدول الأخرى سوى الخدمات الأمنية والعسكرية والتكنولوجية المتوفرة في دول كثيرة في العالم. لكن من جهة أخرى إسرائيل متخصصة في بيع الوهم بأن العلاقة معها هي المدخل للولايات المتحدة، وأن تلك العلاقة تعطي صك براءة عن جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان. لكن الانتخابات الأمريكية بعد أيام وقد يجد الكثير ممن راهنوا على البيت الأبيض أن المعادلات الأمريكية قد تغيرت.
لقد باعت إسرائيل ذات الوهم للرئيس العراقي صدام حسين اثناء الحرب العراقية الأمريكية في أواسط ثمانينيات القرن العشرين دون أن يتطور الأمر كثيرا، كما وباعت ذات الوهم للرئيس السادات 1979 الذي انتهى بكامب ديفيد، كما وللأردن عبر مراحل مختلفة من تاريخه، لكن إسرائيل تتحرك وفق مصالح الصهيونية، فهي التي سعت لأن يتفق العرب معها، وهي نفسها التي تسعى بكل وسيلة لتقزيم مصر وتهديد الأردن.
إسرائيل حليفة الديكتاتوريات في العالم كما وفي الشرق الأوسط لم تتغير منذ نشوئها. بل إن التوجه العنصري الذي يضطهد العرب في فلسطين ويحاسبهم لعدم يهوديتهم يعكس نظرة إسرائيل للعالم العربي، فهي نظرة شك وريبة وإملاء واختراق وكراهية.
لقد دعمت إسرائيل جنوب افريقيا العنصرية للنهاية بينما كان مانديلا في السجن. هي نفسها التي سعت لتنظيف سجل الرئيس الزائيري موبوتو، مع اعطائه الوعد في 1982 بأن إسرائيل من خلال منظماتها في أمريكا ستعمل لتحسين صورة زائير. حتى إيميلدا ماركوز زوجة ديكتاتور الفيليبين الشهير عبرت عن رغبتها في علاقة مع إسرائيل لتغير صورة الفيليبين السيئة في العاصمة الأمريكية.
إن توصل إسرائيل للتفاهم مع عدد من الدول العربية ينطلق من أن العدو الحقيقي لهذا التفاهم الجديد: النظام الديمقراطي الشعبي التمثيلي المساءل. فالعدو لهذا الحلف هو حكم الشعب بالشعب وهو النقد والتعبير الحر والإعلام المفتوح. لم يعد العداء للشيوعية، ولا للإرهاب هو الفيصل، بينما حملة التحريض على الإخوان المسلمين أصبحت قميص عثمان الذي يخفي وراءه عداء للمجتمع المدني وللديمقراطية وسعي لبناء ديكتاتوريات جديدة.
لا يبدو من الدقة القول بأن إيران هي السبب الاساسي لهذا التطبيع، وقد تكون تركيا عنصرا آخر من عناصر الموقف لأنه وفق السياسة الأمريكية لابد من احتواء كل قوة اقليمية تؤثر على الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، لكن ذلك الزمن بدأ يتغير، ومن الصعب منع نمو قوى إقليمية قوية في ظل تراجع كوني وإقليمي لدور الولايات المتحدة. لكن بنفس الوقت إن حراك شعوب الاقليم العربي المحتمل في ظل الانسحاب الأمريكي على مراحل هو عدو للكثير من الأنظمة منذ 2011.
إن إسرائيل بروحها العنصرية، وبكراهيتها لشعوب الإقليم، وبعقليتها الاستعلائية، قد دخلت في قلب الإقليم العربي. وهذا يعني أنها اصبحت في صدام مباشر مع آفاق التحرر العربي القادم
و لينجح الاتفاق الجديد بين إسرائيل والسودان والذي تم برعاية إماراتية أمريكية منذ أيام لا بد من أن يتحول السودان لديكتاتورية عسكرية جديدة، ولكي تحقق الاتفاقات الجديدة دورها لا بد من بتر كل تعبير وحرية رأي بما فيها الآراء الناقدة لإسرائيل. سيؤثر الاتفاق على المجلس السيادي في السودان والتوازن بين القوى المدنية والعسكرية. فهل يتحمل السودان ديكتاتورية جديدة؟.
إن الاتفاقات الراهنة لن تنجح على المدى المتوسط، لكن مشروع بناء شرق أوسط سلطوي معاد للحريات والديمقراطية والتيارات الشعبية والقضية الفلسطينية ماض في طريقه. نحن أمام شكل جديد لحلف بغداد الذي أسقطته الشعوب العربية.
الاتفاق مع السودان عبث سياسي مارسه ترامب قبل الانتخابات الأمريكية في الثالث من تشرين الثاني-نوفمبر 2020 بأيام. والرئيس ترامب معتاد على استخدام الضعفاء في تحريك ما يريد، لكنه لا يفكر في القادم، وكيف يمكن لخطواته أن تحرك منطقة الشرق العربي بعيدا عن الولايات المتحدة.
من يتابع الاتفاق السوداني الإسرائيلي سيتضح له انه اتفاق إملاء، فمقابل رفع السودان عن لائحة الارهاب، يتم التطبيع مع إسرائيل. هذا يبرر لإيران ودول كثيرة تخضع للعقوبات الأمريكية، بل لن استغرب بروز جبهة عالمية ضد العقوبات الأمريكية من دول شتى.
وسيضع الاتفاق السوادني مع إسرائيل الأساس لبعض صفقات السلاح، ومزيد من التكنولوجيا للمراقبة والسيطرة الداخلية، وسيعني الاختراق الإسرائيلي للسودان محاولة استغلال خيراته. بل لن تقوم إسرائيل بتغير خارطة الزراعة في السودان، هذا يتطلب سواعد سودانية وليس إسرائيلية. لكن الأهم انه رفع السودان عن لائحة الإرهاب قد لا يكون عملية دائمة، ومع أي تغير في السياسة السودانية بإمكان العقوبات أن تعود.
وسيؤدي الاتفاق السوداني الاماراتي لعسكرة البحر الأحمر حيث قاعدة تركية وأخرى إماراتية في اريتريا، وقد تنشأ قاعدة إسرائيلية على الأراضي السودانية المطلة على البحر الأحمر. العسكرة ممتدة من البحر الأحمر لمنطقة الخليج وإيران بنفس الوقت. هذا وضع قابل للاشتعال.
إسرائيل ستحاول حماية أصدقائها الجدد، لكن تاريخها يؤكد على مدى فشلها في فعل ذلك في العالم العربي والإسلامي، بل كان لإسرائيل مواقع وسيطرة في كل من ايران قبل الثورة الاسلامية 1979 وفي تركيا قبل مجيء اردوغان كرئيس للوزراء في بدايات الالفية الثانية. السـؤال كيف خسرت إسرائيل هذه الدول والشعوب، وما ضمانة حفاظها على السودان وغيرها في دائرتها؟
إن إسرائيل بروحها العنصرية، وبكراهيتها لشعوب الإقليم، وبعقليتها الاستعلائية، قد دخلت في قلب الإقليم العربي. وهذا يعني أنها اصبحت في صدام مباشر مع آفاق التحرر العربي القادم، ستكون بعين العاصفة بأكثر ما تتوقع أو تتمنى. التناقضات القادمة ستكون كاشفة.
شفيق ناظم الغبرا
القدس العربي