مع تواصل التصعيد بين أذربيجان وأرمينيا في إقليم ناغورني قره باغ وفشل المساعي الروسية الأميركية في فرض هدنة هناك، غادرت إيران خلافا لما كان متوقعا موقفها الحيادي منذ بداية الأزمة قبل أسابيع، لتعلن دعمها لباكو وتدعو يرفيان إلى الانسحاب من “الأراضي المحتلة” في أذربيجان. ويعزو متابعون التغيير المفاجئ للموقف الإيراني من الأزمة إلى هواجس دينية وجيوسياسية فرضت على طهران تعديل بوصلتها.
طهران – خلافا لمواقفها السابقة الداعمة بصفة غير مباشرة لأرمينيا في صراعها مع جارتها أذربيجان على إقليم ناغورني قره باغ، عدّلت إيران بصفة مفاجئة بوصلتها صوب باكو، ما يطرح تساؤلات بشأن الدوافع التي تقف وراء ذلك، فهذه ليست المرة الأولى التي ينشب فيها نزاع بين باكو ويرفيان لكن الموقف الإيراني تغيّر رغم ذلك.
ويرى متابعون أن تبدّل المزاج الإيراني من أزمة قره باغ محكوم هذه المرة بطول فترة النزاع مقارنة بالمرات السابقة وبصراع النفوذ المحموم الجاري على حدودها الشرقية، إذ ترى طهران انخراط كل من تركيا وروسيا في الأزمة تهديدا لنفوذها في جنوب القوقاز، ما يتطلب تغيير تكتيكات التعامل مع المستجدات هناك.
وتدرك إيران جيدا أن دعمها للأرمن المسيحيين ضد الأذريين الشيعية في باكو من شأنه إثارة النعرات العرقية داخل أراضيها التي يتواجد فيها قرابة 20 مليون إيراني من أصل أذري وهو ما يفوق سكان أذربيجان أنفسهم، عكس الموقف التركي الذي يبدو منسجما مع مشاعر وعواطف المسلمين في العالم الذين يرون أن تركيا تقف وتدعم دولة مسلمة لاستعادة أراضيها المحتلة من غير المسلمين.
وتشعر إيران بأنها يجب أن تلعب دورها المفترض كزعيمة للعالم الشيعي، وأن تقف في وجه طموحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أذربيجان مثلما فعلت سابقا في سوريا.
وتحرج تحركات تركيا في قره باغ القادة الإيرانيين وتنتزع منهم دورهم المفترض كزعماء للعالم الإسلامي الشيعي، مستندة في ذلك على الروابط العرقية حيث يعود الأذريون إلى أصول تركية.
ويعتقد الأذريون أن إيران حليفة عدوّهم التاريخي أرمينيا، لن تكون صديقة لهم حتى لو تودّدت من خلال المذهب، وهو عنصر أقل قيمة من البعد العرقي والانتماء التركي للبلاد.
ودفع اشتداد التصعيد في قره باغ ومساعي تركيا إلى إطالة أمده بالنظام الإيراني إلى تغيير تكتيكاته وإعلان دعمه لباكو، مع اشتداد الاحتجاجات الداخلية في صفوف المواطنين من أصول أذرية الذين انتقدوا بشدة سياسات بلادهم الخارجية تجاه إخوانهم في أذربيجان.
وطالب ممثلو المرشد الأعلى في المقاطعات الإيرانية الناطقة باللغة الأذرية في بيان مشترك يوم 30 سبتمبر الماضي بلادهم بـ”الاعتراف بحق أذربيجان في استعادة منطقة ناغورني قره باغ بناء على قرار مجلس الأمن الدولي، ووقف الاشتباكات، ووجوب إعادة قره باغ إلى موطنها الأصلي أذربيجان”.
ومن المعروف أن المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي يمثل رأس النظام الإيراني وهو الموجّه الأعلى للسياسات الرسمية لإيران في قضايا الداخل والخارج، والمرشد الذي يعود إلى أصول أذرية كان له موقف سابق من قضية إقليم قره باغ التي وصفها بأنها أرض المسلمين، وهو ما دفع ناشطين إيرانيين إلى تذكير الحكومة بموقف المرشد قبل عقدين ودفع شخصيات وجهات إيرانية عديدة إلى تأييد أذربيجان.
وكان خامنئي قد صرح بأن “الحكومة الأرمنية تقمع المسلمين في منطقة قره باغ، ونحن ندين هذه الأعمال، وقره باغ هي أرض للإسلام”.
وحتى لا يظهر القادة الإيرانيون تناقضا مع موقف المرشد، فقد أكد العديد من المسؤولين والقيادات في طهران أن إقليم قره باغ هو أرض تابعة لأذربيجان.
ودعا علي أكبر ولايتي مستشار الشؤون الدولية للمرشد الإيراني إلى “إعادة المناطق المحتلة إلى أذربيجان، وعودة أكثر من مليون أذري إلى مناطقهم بعد نزوحهم منها إثر احتلال أرمينيا لها”.
وأكد كل من المتحدث باسم الحكومة الإيرانية علي ربيعي، والمتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده ضرورة احترام وحدة أراضي أذربيجان، وإنهاء احتلال أرمينيا لإقليم قره باغ، وحل هذه القضية بشكل دائم لا مؤقت.
ويشير مراقبون للشأن الإيراني إلى أن هذا الموقف يحقق الانسجام مع شعارات النظام وسياساته ويحقق مصالحه في الوقت نفسه، فالهدف الأسمى منه هو قطع الطريق على استثمار تركيا في هذا العرق لتعزيز نفوذها على حساب الهوية الدينية الشيعية للأذريين.
ومن وجهة نظر إيران يعتبر الأذريون شيعة علمانيون لكن التخلي عنهم لأنهم لا يدينون بالولاء للمذهب الإثني عشري يصب في مصلحة تركيا التي تسعى إلى احتوائهم تحت مظلة العرق لا الدين، لذا فإن طريق الصبر عليهم أفضل من استعدائهم.
ورغم الاشتراك في اعتناق المذهب الشيعي بين إيران وأذربيجان، إلا أن النفوذ الشيعي الإيراني محدود جدا وتمت محاربته بجدية، بسبب النموذج الديني المتشدد في إيران مقابل نظام تركي عرقي علماني في أذربيجان.
وتسعى أنقرة في ذلك إلى استثمار العلاقات التاريخية والعرقية مع أذربيجان، فالشعب الأذري من العرق التركي ويتفقان في الديانة الإسلامية رغم الاختلاف على المذهب، وكانت تركيا أول دولة اعترفت باستقلال أذربيجان عام 1991.
وتستهدف أنقرة من خلال انخراطها العسكري في أزمة قره باغ روسيا أيضا إلى جانب إيران، فالسعي للحصول على موطئ قدم في منطقة القوقاز على الحدود الروسية يمكنها من امتلاك ورقة ضغط قوية وهامة في اقتلاع تنازلات من موسكو في الملفين السوري والليبي.
ورغم إعلان دعمها لأذربيجان في قره باغ، يقول متابعون إن دور إيران في النزاع سيبقى محدودا، وهو أقرب إلى دور الوسيط المراقب، لكن اندلاع حرب شاملة سيكون له تداعيات وخيمة على إيران أكثر من تركيا وروسيا.
وتقود الخارجية الإيرانية منذ أيام مبادرة وساطة قالت إنها تمثل حلا نهائيا لتجاوز الأزمة بين أرمينيا وأذربيجان، لكن صدى هذه المبادرة لم يخرج للعلن بعد خاصة في ظل تكتم الجانب الإيراني عن تفاصيلها.
وقدم مساعد الخارجية للشؤون السياسية المبعوث الخاص للرئيس الإيراني عباس عراقجي الخميس إلى الجانب الروسي مبادرة الجمهورية الإسلامية لتسوية النزاع بين أذربيجان وأرمينيا حول منطقة قره باغ، فيما لم يذكر الجانب الإيراني تفاصيل عن بنود المبادرة.
وكان مساعد الخارجية الإيرانية قد بدأ من باكو جولته الإقليمية لطرح مبادرة طهران لحل النزاع حول قره باغ، وأجرى محادثات مع عدد من كبار المسؤولين في أذربيجان في مقدمهم الرئيس إلهام علييف.
وفي ختام زيارته إلى باكو صرح عراقجي بأن محادثاته مع المسؤولين الأذريين كانت بناءة وقال إن رؤية الجانب الأذري للمبادرة الإيرانية إيجابية.
ومن المقرر أن يقوم مساعد الخارجية الإيرانية ضمن جولته الإقليمية بزيارة يريفان وأنقرة أيضا.
العرب