مثلت ساحات الاحتجاج في العراق بعداً رمزياً كبيراً بالنسبة إلى العراقيين، حيث سجّلت غالبيتها ذاكرة طويلة من الأحداث في تلك المدن، ما جعل لكل منها تراثاً وامتداداً لهوية المدن الثقافية والسياسية.
وتحظى ساحة التحرير في الباب الشرقي وسط بغداد بالرمزية الأكبر بين مثيلاتها، نظراً إلى موقعها الجغرافي بقلب العاصمة، مصدر صناعة القرار السياسي في البلاد، فضلاً عن نصب الحرية للنحات العراقي جواد سليم، وهو ما يمنحها بعداً ثقافياً، لتشكّل هوية إضافية.
ولا يتوقف الأمر عند “التحرير”، فكثير من الأماكن بالمحافظات الأخرى لعب دوراً بارزاً في انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول)، ولكل منها خصوصية ترتبط بدلالات سياسية واحتجاجية وثقافية، على رأسها “الحبوبي” وسط مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار.
عمق ثقافي وبعد رمزي
في البداية، يرى الشاعر والأكاديمي عارف الساعدي أن اختيار ساحات الاعتصام في الانتفاضة جرى بـ”قصدية عالية”، إذ إن غالبيتها تمثل عمقاً ثقافياً وبعداً رمزياً في المدن العراقية المختلفة.
وبشأن اختيار “التحرير” منطلقاً للاحتجاجات في السنوات الأخيرة، يشير الساعدي إلى أن “احتواءها على نصب الحرية لجواد سليم وتمثيلها عمق بغداد الثقافي أكسباها من دون قصد أهمية كبرى وجعلاها منطلقاً رمزياً لأي حركة تحررية”.
ويضيف، “ربما لا يعرف كثير من الشباب تفاصيل تلك الساحات وتاريخها، لكنها عُجنت في ذاكرة المدن، وصارت جزءاً من هويتها ومرجعيتها الثقافية”، مبيناً أن “الخروج في تظاهرات يحتاج إلى مناطق ذات بعد رمزي، وهو ما أكسب التحرير وغيره من الأماكن مثل الحبوبي تلك المكانة”.
وعلى الرغم من وجود أماكن أخرى في بغداد، فإنها جميعاً لم تنل المكانة التي حظيت بها “التحرير”، إذ يلفت الساعدي إلى أن “دعوات عدة للتظاهر في ساحات أخرى حصلت في أوقات سابقة، وعلى الرغم من قرب بعضها من دوائر صنع القرار، فإنها لم تحظ باهتمام كبير، لأن خصوصية التحرير التراثية جعل التنافس معها غير ممكن”.
الدماء رمزية إضافية
فضلاً عن الإحالات التاريخية على رمزية ساحات الاحتجاج، على رأسها “التحرير”، وما شهدتها من أحداث واحتجاجات في السنوات الماضية، فإن الحدث الفارق الذي أضاف إليها، كان عمليات القمع الوحشية التي تعرض لها الشبّان، في محاولة لمنعهم من الوصول إليها تحديداً في مطلع أكتوبر 2019 وانطلاق الموجة الأولى من الانتفاضة.
ويرى المحتجون بشكل عام، أن كل قطرة دم سالت في ساحات الاحتجاج خلال الانتفاضة العراقية كانت تزيد من رمزية أماكن التظاهر، وتكسبها “بعداً روحياً” يزيد من تمسّك الشباب بها. يقول الناشط علاء ستار، “موقع ساحة التحرير جعلها منبر إرسال رسائل إلى بقية ثوار المحافظات، بأن بغداد بيّد شبانها”.
إضافة إلى رسالة الموقع التي يتحدث عنها ستار، فإنه يشير إلى أن “اللحظة الفارقة التي جعلت من الساحة رمزاً أكبر، هي سقوط دماء الشباب المدافعين عنها من محاولات اقتحام قوى السلطة”، لافتاً إلى أنه “مع كل شهيد يسقط كانت تكسب بعداً رمزياً، كأنها أصبحت مع تراكم الدماء، عراقاً مصغراً ندافع عنه”.
عقد روحي
كانت ساحة التحرير منطلق الاحتجاجات العراقية منذ فبراير (شباط) عام 2011، حيث شهدت أول تظاهرة في فترة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، تلتها عشرات الاحتجاجات الأخرى في سنوات لاحقة.
يقول الصحافي سلام الحسيني، “(التحرير) تمثّل عقداً روحياً بين المتظاهر والمكان منذ 2011، إلا أن انتفاضة أكتوبر مثلت انعطافة بشأن مكانتها لدى المحتجين”، مبيناً أنها “لم تعد بعد الانتفاضة مجرد مكان جغرافي مهم، بل أرشيفاً كاملاً يوثق كل الانتهاكات الدموية التي حدثت”.
يضيف، “لذلك أصبحت كالمزار الذي يحرّض على الاحتجاج لرفض الاستبداد والفساد على الدوام”. متابعاً “لعل أهم ما يجذب الشخص عندما يطالع نصب الحرية في الساحة هو الجندي الذي يكسر قضبان السجن الذي يتوسط النصب لما فيه من قوه وإصرار ونقطة تحول تنقل قصة النصب من مرحلة الاضطراب والغضب والمعاناة إلى السلام والازدهار”.
أهازيج الثورة وكسر الخطوط الحمر
على الرغم من كل ما مثلته الساحات ودماء شبانها المدافعين عن الانتفاضة ومبادئها، كان للهتافات والأهازيج أيضاً دور فاعل في التأثير وحشد الرأي العام، وببساطة كلمات العديد منها، فإنها حملت بين طياتها نقداً لاذعاً لشخصيات سياسية ودينية لم يكن يُتعرض لها في أوقات سابقة.
إضافة إلى الأهازيج الثورية ودلالاتها السياسية والدينية، فإن رفض التدخلات الخارجية والنفوذ الأجنبي في البلاد كان واضحاً فيها، حيث تمثّل ذلك في شعارات عدة، كان أبرزها “إيران برا برا… بغداد تبقى حرة”، وأخرى ترفض التدخلات الأميركية والإيرانية، وجعل العراق ساحة صراع بينهما.
يشير الشاعر والناشط علي رياض إلى أن “ما يضيف رمزية إلى ساحة التحرير، عدا دلالتها التاريخية، هو امتداد شارعها إلى ساحة الطيران التي تضم جدارية الفنان فائق حسن، التي تعددت مسمياتها بين جدارية الطيران والسلام والثورة، مع رمزية ثورية عالية وضمن مشروع نصب الحرية نفسه”، مبيناً أن “هذه الدلالات الثورية في الساحتين جعلتهما منطلق أي احتجاجات”.
وبشأن الهتافات والأهازيج التي كانت سمة واضحة في الانتفاضة، يبين رياض أنه “بين العراقيين وكتابة الهتافات تاريخ طويل يعود إلى قرون، استخدمتها العشائر للتعبير عن احتجاجاتها في كل المحطات الوطنية، في فترة الاحتلال العثماني أو البريطاني، ودخولها مؤخراً على الخط السياسي كان نتيجة تراكم الخيبات السياسية التي عاشها العراقيون في السنوات الماضية”.
ويختم، “تشرين بدأت لتضع حداً لكل شيء، ومنذ يومها الأول كان هناك اتفاق غير معلن على أن من لا يعلن تأييده للثورة سيتلقى سهام نقدها، الأمر الذي جعل هتافاتها وأهازيجها لا تخلو من التعرّض لشخصيات دينية بعيدة عن النقد، ما أسهم بشكل ملحوظ في استمالة تلك الشخصيات إلى جانب الحراك الثوري”.
ساحة الحبوبي رمزية المكان ودلالة التاريخ
مثلت ساحة الحبوبي في مدينة الناصرية جنوب العراق، إحدى أبرز ساحات الاحتجاج في انتفاضة أكتوبر، حيث كانت بالنسبة إلى المحتجين مركز التصعيد، نظراً إلى عدد الضحايا الكبير والمجازر التي ارتكب بحق المحتجين فيها.
يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة ذي قار نجم الغزي، “لساحة الحبوبي أثر تاريخي كونها المنطقة الرئيسية في محافظة ذي قار ومركز مدينة الناصرية، ومنها نشأت المدينة الجديدة، وتوسعت كما هو الحال في التحرير”.
ويشير إلى أن “تلك الساحة كانت مركزاً ثقافياً مهماً في المحافظة، الأمر الذي أعطاها زخماً إضافياً، فضلاً عن رمزية السيد محمد سعيد الحبوبي أحد زعماء ثورة العشرين، الذي قتل في الناصرية، الأمر الذي زاد من رمزيتها”. ويلفت إلى أن المدينة فيها كثير من الساحات الحديثة، إلا أنها لم تأخذ الرمزية ذاتها، لأنها لا تمتلك عراقة ساحة الحبوبي، لذا كان اختيارها فعلاً واعياً لا اعتباطياً.
وكانت شعارات وأهازيج محتجي الناصرية واضحة التأثير والدلالة، حيث تطرقت إلى شخصيات سياسية وزعماء تيارات دينية، الأمر الذي كان له أثر واضح في كسر خطوط حمر عدة. ويعزو الغزي ريادة هذه المدينة لأهازيج الانتفاضة إلى كونها “وسطاً ثقافياً وتاريخياً زاخراً”، مشيراً إلى أنها “كانت بمثابة موسيقى تحفيزية لكل المحتجين، إذ انعكس تراث المدينة الثقافي ووعيها في تشكيلها، لأنها تمثّل وعياً سياسياً ودافعاً في تعزيز الهوية الوطنية”.
ويلفت إلى أن “تأثير تلك الشعارات كان واضحاً في فترة الانتفاضة، خصوصاً أنه دفع كثيراً من الشخصيات العشائرية والسياسية إلى اتخاذ مواقف مساندة للانتفاضة، خوفاً من أن تطالهم سهام النقد من شبانها”.
النجف ساحتان بروح ثورية واحدة
في محافظة النجف جنوب بغداد، كانت ساحة ثورة العشرين هي الرئيسة للاحتجاجات في الفترة بين عامي 2011 و2019، قبل انتفاضة تشرين، حيث مثّلت دلالات رمزية، أبرزها الموقع الجغرافي الذي يمثل قلب المدينة الحيوي، وخصوصيتها التاريخية والثقافية للثورة، التي انطلقت منها في عشرينيات القرن الماضي.
لكنها لم تكن مكان الاعتصام الرئيس في المحافظة، على الرغم من انطلاق الانتفاضة فيها خلال الأيام الأولى، بل كانت ساحة الصدرين مكان الاعتصام الرئيس في الموجة الثانية لها. ويعزو الباحث والأكاديمي حيدر نزار تغيير مكان التظاهر إلى قرب ساحة الصدرين من مركز السلطة في المحافظة، الأمر الذي قد يشكّل ضغطاً إضافياً، مشيراً إلى أن “اختيارها من قبل المحتجين كان بإدراك ووعي، لأنها نقطة التقاء بين مدينتي النجف والكوفة أهم مدن المحافظة”.
فضح الأيديولوجيا الدينية
وفي شأن الأهازيج في ساحات الاحتجاج بشكل عام، يلفت نزار إلى أن “محاولات السلطة السياسية تسخير الأيديولوجيا الدينية لفرض الهيمنة، دفعت المحتجين بوعي لاستخدام ضد نوعي لها، تمثّل في هتافاتهم في جميع المحافظات العراقية”.
ويشير إلى أن انطلاق شعار (باسم الدين سرقونا الحرامية) الذي خرج من مدينة النجف مركز المرجعية الدينية التي أيدتهم، كان له أثر واضح في “تفكيك الغطاء الديني الذي لطالما مثّل مساحة استثمار لأحزاب السلطة وقواها”. ويبدو أن لدماء ضحايا الانتفاضة أثراً كبيراً في صوغ هتافات شبانها، حيث يشير نزار إلى أن “أغلبها دارت حول ضحاياها، تمجيداً لروح البطولة العراقية”.
لعل واحداً من أهم جوانب الانتفاضة العراقية، تركيزها الواضح على إعادة إحياء الهوية الوطنية، بشعار “نريد وطن” الذي مثّل عنواناً رئيساً لحراكها. ويعتقد نزار أن ذلك “أسهم بشكل كبير في استقطاب قلوب العراقيين إلى تلك الانتفاضة في مقابل انغماس السلطة في مشاريع خارجية وطائفية”، مردفاً أن “هذه الشعارات والأهازيج أسهمت إلى حد كبير في كسر خطوط حمر صنعتها السياسة باستغلال الرموز الدينية”.
أحمد السهيل
اندبندت عربي