على الرغم من كل المحاولات التي تبذلها الأوساط الروسية الرسمية لإخفاء ميولها الحقيقية تجاه مرشح الرئاسة الأميركية الأنسب لموسكو، ومهما بلغ حرص الرئيس فلاديمير بوتين على إخفاء ما يبطن، وتأكيده أن بلاده تقف من المرشحين دونالد ترمب، وجو بايدن على مسافة واحدة، فإن مؤشرات كثيرة تقول، إن الحقيقة مغايرة إلى الحد الذي يقول إن الأبواب تبدو معها “مفتوحة أمام كل الاحتمالات”. وهو استنتاج يستمد مفرداته مما يقوله الواقع بشأن أن موسكو، وكأنما تقف بين خيارين، أحلاهما مر، وعليها أن تحسم أمرها بين “السيئ والأسوأ”.
ومن هنا يمكن تفسير مدى الحيرة التي تنتاب الكرملين والأوساط الرسمية في العاصمة الروسية، وما تركن إليه من ترديد المقولات البديهية، حمالة الأوجه والتأويلات، وأن تبدو عاجزة عن إخفاء حقيقة ما يبطن أولو الأمر في موسكو.
فما يقوله الرئيس بوتين بشأن أن بلاده ستتعاون مع أي رئيس يثق به وينتخبه الشعب الأميركي، وستقف من المرشحين على مسافة متساوية، تدحضه تصريحات سابقة تكشف عن ميول واضحة صوب ترمب، الذي سبق وكان إلى جانب فوزه في الانتخابات الماضية.
كما أن ما يقوله بوتين أيضاً بهذا الصدد يشوبه قدر من الحيرة والتضارب. فبينما يقول، إن ترمب أعلن أكثر من مرة رغبته في التعاون مع روسيا وإقامة علاقات بعيدة عن العداء والمواجهة، يعود ليعترف بأن الأخير اتخذ 46 قراراً بفرض العقوبات الاقتصادية والسياسية أو تشديدها ضد روسيا، فضلاً عن تشدده فيما يتعلق بمباحثات الحد من التسلح. على أن ذلك لم يمنعه في الوقت نفسه من الإعراب عن تقدير بلاده لما يقوله ترمب بشأن عزمه على تطوير العلاقات الروسية الأميركية، وعن أسفه تجاه اعتماد منافسه بايدن خطاباً أكثر حدة وعداءً لروسيا.
على أن ما يتحرج عن قوله بوتين، تكشف عنه وتقوله على نحو أكثر تصريحاً كل الوسائل الإعلامية والبرامج الحوارية المعروفة بعلاقاتها الوثيقة مع الكرملين. بحسب رصد مراقبين، بينهم وليام إيفانينا، مدير المركز الوطني للأمن ومكافحة التجسس، في تصريحاته التي أدلى بها في أغسطس (آب) الماضي بقوله “إن بعض الأطراف الفاعلة المرتبطة بالكرملين تسعى إلى تعزيز ترشيح الرئيس ترمب عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون الروسي”؛ ونشير في هذا الصدد إلى البرامج الرئيسة التي تبث عبر القناتين الرسميتين الروسيتين “روسيا-1″، والإخبارية الفضائية “روسيا-24″، بينها “أمسية مع سولوفيوف”، وبرامج أخرى تحمل الاسم ذاته فلاديمير سولوفيوف، وهو يهودي روسي دائم الحرص على الإشارة إلى يهوديته، سبق وانشق عن الأوساط الليبرالية مع مطلع القرن الحالي، و”موسكو- الكرملين- بوتين”، الذي يتمتع برعاية ومباركة واضحتين من جانب الجهاز الصحافي للكرملين.
وفي محاولة للتخفيف من حدة الوضوح “الزاعق” لميول أجهزة الإعلام الروسية الرسمية صوب ترمب، بوصفه “الخيار الأفضل بين السيئ والأسوأ”، خرج ديميتري بيسكوف، الناطق الرسمي باسم الكرملين ليقول في 22 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إن روسيا سوف تتعامل مع الرئيس الذي ينتخبه الشعب الأميركي، وأنه من غير الصحيح ما يقال بشأن أن ترمب هو المرشح الأفضل لروسيا، معيداً إلى الأذهان ما سبق وقاله الرئيس بوتين “إن ترمب هو الرئيس الأميركي الذي أقر أكبر قدر من قرارات العقوبات ضد روسيا”. وتلك محاولة تقترب من جوهر ما قاله الرئيس الأميركي نقلاً عن جون را تكليف مدير الاستخبارات الوطنية الذي كان عينه في فبراير (شباط) الماضي، إن “روسيا وإيران” لا تريدان فوزه، وكأن بقية بلدان العالم ومنها الصين تريد ذلك.
على أن ما كشف عنه منافسه جو بايدن بأن روسيا لا تريد فوزه، يبدو أكثر إقناعاً حيث قال “روسيا لا تريد فوزي في الانتخابات، فكل ما يدور الآن يعني أنها تريد توفير كل شيء يمكن أن يحول دون تنصيبي رئيساً للولايات المتحدة، لأنهم يعرفون أنني أعرفهم، وهم يعرفونني”.
ويقول جيورجي ميرزويان، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة المالية التابعة للحكومة الروسية، إن فوز بايدن ينذر روسيا بكثير من المشاكل، منها ما يتعلق بما أعلنه صراحة حول أنه يعتبر روسيا عدواً حقيقياً للولايات المتحدة، وليست منافساً على غرار ما وصف به الصين. وأعلن ميرزويان، أن بلاده لا تنسى ما فعله بايدن في أوكرانيا إبان سنوات عمله نائباً للرئيس السابق باراك أوباما.
وأضاف، أنه لا بد أن يحرص في حال فوزه على تقديم المزيد من الدعم المادي والمعنوي، بل أيضاً العسكري، في أغلب الاحتمالات إلى أوكرانيا، على حد قوله. وقال أيضاً إن بايدن قد يجنح نحو تسوية علاقات بلاده مع بلدان الاتحاد الأوروبي، بما قد يسمح لاحقاً بتشكيل جبهة موحدة معادية لروسيا. غير أن ميرزويان سرعان ما صحح توجهاته تجاه هذا المقصد، مشيراً إلى أن الحالة الصحية لبايدن قد لا تسعفه لإنجاز كل هذه المهام، ما قد يسمح لنائبته كامالا هاريس بأن تبدأ محاولاتها صوب محاولات تطبيق كثير من أفكارها الليبرالية اليسارية على صعيد الداخل. لكن ذلك لا يعني الانصراف عن العلاقات الخارجية، التي تكفل بها نواب ديمقراطيون معروفون بعدائهم لروسيا. أما في حال احتمالات فوز ترمب، فقال ميرزويان، إن “فرص الحد من اللهجة المعادية لروسيا وتخفيف حدة التوتر في علاقات البلدين، ستكون أوفر كثيراً”.
أما فيدور لوكيانوف، رئيس مجلس السياسة الخارجية والمدير التنفيذي لمنتدى فالداي، المعروف بعلاقته الوثيقة مع الكرملين، فيستهل تعليقه في هذا الصدد بتساؤله حول الأسباب التي تدعو روسيا إلى قبول الأصدقاء الذين هم في جوهرهم أسوأ من الأعداء. وهو سؤال يتفق مع ما طرحه ألكسندر بيلوف من مجلة “ناشيونال انترست” الذي قال إنه “لا شيء طيب ينتظر روسيا من الانتخابات الرئاسية الأميركية”. وهي النتيجة نفسها التي توصل إليها ديميتري سايمس اليهودي الأميركي الروسي الأصل، الذي قال في مقالته بالمجلة ذاتها في 3 أكتوبر الماضي “إن روسيا تبدو مدعوة إلى معايشة أربع سنوات أخرى من المواجهة مع الولايات المتحدة، بغض النظر عن الرئيس الذي من الممكن أن يفوز في الانتخابات المرتقبة”. وقد توقفنا عند ما قاله سايمس تحديداً، لأنه يعكس رأي خبير أميركي تشهد له موسكو برصانة الفكر ورجاحة الرأي، وهو ما تؤكده دعوتها له للمشاركة كضيف دائم على كثير من برامجها الحوارية ذات الصبغة الرسمية مع كبار معلقيها.
ونشير أيضاً إلى ما قاله أندريه كورتونوف، المدير العام لمجلس الشؤون الدولية التابع لمركز التحليلات السياسية ذي العلاقة الوثيقة مع وزارة الخارجية الروسية. إذ ذكر، أن الأعداد تتزايد في موسكو بين المراقبين والمعلقين الذين يبدون أكثر يقيناً من أن علاقات الولايات المتحدة مع روسيا لن تصبح أفضل كثيراً سواء كان الفائز بايدن أو ترمب. بل هناك من يقول إن حالة الاستقطاب التي تشهدها الولايات المتحدة الآن، سوف تسفر عن المزيد من عدم استقرار نهج السياسة الخارجية الأميركية في المستقبل القريب، على حد تعبير كورتونوف، الذي كشف عن أن ذلك هو ما يستشفه من تصريحات كبار المسؤولين في أروقة السلطة الروسية.
وأعرب كورتونوف عن قدر من عدم التفاؤل إزاء مستقبل العلاقات بين البلدين، مؤكداً أنها لن تخرج من حالتها الراهنة، ما لم تتخلص الولايات المتحدة من أزمتها الداخلية السياسية، وأن هذا العلاقات لن تسوء أكثر، نظراً لأنه ليس هناك أسوأ مما تعيشه اليوم. وتأكيداً لصحة ما خلص إليه، أعاد إلى الأذهان ما سبق وأعربت عنه موسكو من تفاؤل حول احتمالات تغير المواقف الأميركية، على ضوء ما كان دونالد ترمب قد أغدق الوعود بشأنه في كل تصريحاته التي أدلى بها خلال حملاته الانتخابية.
ولم يغفل السياسي الروسي التذكير بما صدر عن الكرملين من تصريحات وصف فيها نهج السياسة الخارجية لترمب بأنه “يكاد يقترب إلى حد التطابق” مع نهج سياسات الرئيس بوتين، على أن كل ذلك لا ينفي وجود من يعلق الكثير من آماله في التغيير على جو بايدن انطلاقاً من تزايد احتمالات الضغوط الاقتصادية التي يمكن أن تفرض على بايدن تغييراً في السياسات، وذلك ما أورده موقع “”1prime.ru الروسي الإلكتروني، نقلاً عن ادجار جولوسوف، الاقتصادي الروسي والخبير في مجال التأمينات والاستثمارات، الذي أرجع رؤيته تجاه التباين الذي كثيراً ما تتسم به السياسات والبرامج المعلنة لهذا المرشح أو ذاك، إلى محاولة الاستجابة إلى ميول الناخبين، التي كثيراً ما تتغير تحت وطأة المسؤولية بعد توليه رسمياً سدة الحكم. وذلك ما يمكن قبوله في إطار الحدود المتعارف عليها، حسب تقديرات مراقبين كثر.
سامي عمارة
اندبندت عربي